باحثون عن “البركة” فوق موائد الرحمان

موائد الإفطار المجاني يسهر عليها متطوعون يؤمنون بحصولهم على "بركة" في خدمة المعوزين وسط موائد الرحمان التي تغزو الفضاء العام خلال رمضان، وخلف المحاكمات المنصوبة لنوايا ممونيها وعلاقاتهم بالسياسيين، يختفي شباب ونساء يغادرون أسرهم في رمضان، ويتطوعون في إعداد الوجبات ومد المعوزين بها، سعيا وراء "البركة"، يؤمنون بوجودها فوق تلك الموائد. إنجاز: امحمد خيي، تصوير: أحمد جرفي الزوهرة الجوهري، ربة بيت عمرها 57 سنة، ومحمد بساط، طالب جامعي سنه 22 عاما، والمختار اسبايبو، مقاول في عقده الخامس، ثلاثة مواطنين، تجمعهم مغادرة أسرهم طيلة رمضان، من أجل السهر على تغذية فقراء معوزين بمنطقة سيدي البرنوصي. نكران للذات ينتمي المتطوعون الثلاثة إلى الجمعية المغربية للثقافة والتضامن، التي تقيم في شارع صهيب الرومي، بسيدي البرنوصي بالبيضاء، منذ بداية رمضان، الدورة الثامنة لمائدة الإفطار المجاني، ويستفيد من وجباتها، يوميا، 1200 شخص. ويعمل الثلاثة بنكران ذات نادر، ويخصصون، إلى جانب 36 من رفاقهم، وقتا كثيرا، من أجل إنجاح مبادرتهم الإنسانية، سيما من قبل الزوهرة الجوهري، وزميلتاها رقية وفتيحة، إذ يبدأ يومهن التطوعي، في التاسعة صباحا، ولا ينتهي إلا في منتصف الليل. ومهمة الزوهرة، الأرملة التي سهرت على تربية ستة أبناء، تتمثل، منذ ثماني سنوات، في إعداد ستة قدور كبيرة الحجم من الحريرة، وإعداد أباريق الشاي والحليب والقهوة وسلق 1000 بيضة، مع تقطيع الخبز وتقسيم كيلوغرامات من التمر و»الشباكية» على أكثر من ألف صحن. «لا ينتهي دوام تطوعي، رفقة مساعدتي رقية وفتيحة، إلا بعد القيام بأعمال التنظيف وغسل الصحون وباقي الأواني»، تقول الزوهرة، في حديثها مع «الصباح»، وبيدها مغرف طويل، نصف غارق في قدر مليء بالحساء، وتحركه بصعوبة.يكون حساء «الحريرة»، الذي يعد الطبق الرئيسي على موائد الجمعية، جاهزا، في الساعة الخامسة مساء. وحينها يلتحق محمد بساط، الذي يدرس في شعبة الدراسات الفرنسية بكلية الآداب، وباقي أقرانه، بالخيمة الشاسعة، التي تنقسم إلى قاعة أكل تسع عشرات الموائد، ومطبخا ومخزنا.«نأتي إلى هنا، فنقوم بنصب الموائد، وبسط الأسمطة عليها، ثم نشرع في ترتيب الصحون والكؤوس عليها، وحمل الوجبات من المطبخ نحوها، وصولا إلى تنظيم جلوس المستفيدين من الإفطار، والسهر على خدمتهم إلى أن يفرغوا من الأكل، وبعدها نتولى جمع الموائد والأواني والكراسي من جديد»، يقول محمد، الفتى الملتحي، شارحا طبيعة مهمته. يحل، المختار اسبايبو، المقاول الذي يترأس جمعية المغربية للثقافة والتضامن، خلال هذا اليوم (الثلاثاء 22 رمضان)، متأخرا، لأنه ذهب لإحضار بعض الفنانين ونجوم التلفزيون في رمضان، بينهم زهيرة صديق، وعائشة ماهماه، لمشاركة المعوزين مائدة إفطار اليوم. والمختار، بدوره، يبذل مجهودا بدنيا مهما، فهو الوحيد الذي يتمتع بصلاحية التدخل في أي شيء، من مراقبة المؤونة في المخزن، إلى توجيه الطباخات، والإشراف على فريق النادلين أثناء الفطور، وتدبير العلاقات الخارجية مع الداعمين والمانحين.قوة غرائبيةاللافت في المختار والزوهرة ومحمد، الذين يتصببون الآن عرقا وهم يتحدثون إلى «الصباح»، بعيد أذان صلاة المغرب، أن الدافع الديني والإنساني، ليس وحده ما يجعلهم مستمرين في التطوع منذ سنوات، دون كلل أو ملل أو مرض. «حدثت أشياء كثيرة رائعة وغريبة جدا، منذ شرعت في خوض هذه التجربة، وبينت لي أنهم لم يسموها: موائد الرحمن، اعتباطا، إنني أعجز عن توصيف الأمر، لكن أؤكد لك، أن الأمر، ساهم في إنقاذ حياتي، ويمدني بقوة لا توصف»، يؤكد المختار اسبايبو، وبالقرب منه تومئ الزوهرة الجوهري برأسها، متفقة مع ما يقول.ويحكي المتحدث ذاته، مضيفا: «قبل مدة اكتشفت أنني مصاب بورم في الرئة، وتوقع الأطباء، أن تسوء حالتي وأكون طريح الفراش بعد نصف سنة، مؤكدين صعوبة نجاح تدخلاتهم، لكن حدث عكس ذلك، ونجح كل شيء بشكل غريب ولا يصدق». إن المختار اسبايبو، ومعارفه، مقتنعون بأن عمل الخير وإفطار الصائمين المعوزين في مائدة الرحمان، التي تساهم فيها الجمعية التي يترأسها، هي التي جعلت القدر، يكتب له عمرا جديدا بنجاح عملية معقدة جدا لاستئصال الورم من رئته.وداخل الخيمة الرمضانية، يتحدث الجميع، عن استرجاع الطباخة الزوهرة الجوهري، التي يصنف المستفيدون الحساء الذي تعده، لذيذا جدا وأحسن من الذي يوضع على موائد الأغنياء، للياقتها البدنية، منذ التحاقها بالفريق، قبل سبع سنوات. «أنا أعاني داء السكري، منذ سنوات، وبسببه كنت أكون طريحة الفراش طيلة رمضان، قبل أن ألتقي بالمختار، ويعرض علي المساهمة معهم في مائدة الإفطار، وها أنت تشهد، كيف تحسنت صحتي، وكيف أعمل من التاسعة صباحا إلى متصف الليل، طيلة رمضان».وما يزكي وجود «بركة» وقوة غرائبية على موائد الرحمان، كما يعتقد بذلك العاملون هنا، هو أنهم لا يتخوفون نهائيا من انقضاء المؤونة أو عدم كفايتها. «مثلا اليوم، بعد صلاة العصر، لم نتردد في منح 250 وجبة إفطار، إلى أسرة فقيرة لمناسبة جنازة مباغتة حتى تطعم بها المعزين، ولم تمر سوى نصف ساعة، عن التسليم، حتى توصلنا بضعف قيمتها، من مانح مر من المكان».سلوكات طريفةعندما تميل الشمس إلى المغيب، يكون كل شيئا جاهزا على الموائد، وتبدأ الخيمة في استقبال الضيوف، وهم من فئات اجتماعية ومهنية متنوعة: عاطلون رفقة زوجاتهم وأبنائهم، وذوو حاجات جسدية خاصة. ويوجد بين المستفيدين أيضا، عمال بناء وسائقو سيارات أجرة، وجامعو القمامة، ومشردون ومشردات بدون مأوى، وعابرو السبيل، الذين قد يصادف أن يكونوا من الميسورين.وبسبب عدم تجانس هذا الخليط من الفئات المستفيدة من الإفطار المجاني، فإنه لا يمكن توقع ما يمكن أن يحدث، ويجعل الفضاء، حابلا بمفاجآت وطرائف، لا تخطر على بال أحد.«قبل سنتين، كنا قد أنهينا إعداد الموائد ووضع المواد الغذائية عليها، باكرا، وجلسنا ننتظر، الغروب وقدوم المستفيدين، قبل أن نلتفت ونجد عابر سبيل، لا يبدو أنه متشرد أو معوز، ، جالسا إلى مائدة، وشرع في الأكل، في حين أن الشمس مازالت في كبد السماء، ما فاجأنا وبدا مستفزا، قبل أن نكتشف أنه مختل عقليا»، تحكي الزوهرة الجوهري. ويتذكر المختار اسبايبو، حكاية أغرب، وأصابته بتوتر وذعر في البداية: «في إحدى المرات، لمحت أن بين الجالسين إلى إحدى الموائد، شاب يخفي سلاحا أبيض وراءه، فخشيت أن يضمر شرا لأحد موجود بالمكان عينه، كما لم أرد أن أتدخل، قبل أن ينهي فطوره، بعدما استحضرت أنه قد يكون من أولئك المدمنين الذي يرتكبون جرائم قبيل أذان المغرب لأتفه الأسباب». ظل المشتبه فيه تحت مراقبة لصيقة للمختار اسبايبو، ولما فرغ من تناول وجبته، خرج مسرعا من الخيمة، وأشعل سيجارة، وبعد لحظات «فاتحته في موضوع السلاح الأبيض الذي يحوزه، وفاجأني، بأن شكرني على خيمة الإفطار، لأنها أنقذته من ارتكاب جريمة في ذلك اليوم».ويسترسل المختار: «لقد تجادل ذلك الرجل مع زوجته بسبب عدم إعدادها للفطور، فغادر بيته وهو يضمر لها شرا، بذهابه ليقتني سلاحا أبيض من أجل تصفيتها، ولما غير مسار العودة، وجد خيمتنا في طريقه، فولج إليها». أسرة واحدة لا يحبذ المتطوعون في مائدة الرحمان التي تنظمها الجمعية المغربية للثقافة والتضامن بسيدي البرنوصي، أن ينتهي رمضان، إذ يتحول يومه الأخير، إلى حفلة دموع.«تحل علينا نهاية رمضان، كما يحل نبأ فراق عزيز، لأننا نتحول إلى أسرة واحدة متضامنة ومتماسكة ويتوحد أفرادها الـ36، حول المبدأ والدافع والهدف ذاته»، تشير شابة، تساعد الزوهرة الجوهري داخل المطبخ.

باحثون عن “البركة” فوق موائد الرحمان

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

طقوس الصيام لا تغير إيقاعات ليالي أكادير

قيام العشر الأواخر من رمضان

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات