تتجاوز حافلة النقل العام في البيضاء أنها مجرد وسيلة انتقال عادية، فهي مرآة تعكس حال المجتمع، بتقدمه أو تأخره، ففيها تتجلى الرفاهية التي يروج لها في الخطابات الرسمية، وفيها ترى الكرامة على أرصفة الانتظار. إنها، يا سادة، مؤشر واضح على أمنه وكرامته وضمان التكافؤ بين فئات المجتمع. في حافلات البيضاء، قصص تستحق أن تروى، لأنها تجمع بين المتناقضات: المتعة والقسوة، والواقع والأحلام الافتراضية التي لا تجد أرضا تستقر عليها، فتفاصيلها تفوق خيال وإبداع فيلم "إحنا بتوع الأوتوبيس" لعادل إمام. واليوم، نروي حكاية من الحافلة "13"، وللمفارقة، هذا الرقم الذي يعتبر في الثقافة الأوربية رمزا للنحس، بدا وكأن عدواه قد تسربت إلى هذه الحافلة، حتى كادت تختفي من الوجود، بسبب قلة عددها. تبدأ المعاناة من محطة الانتظار، إذ تكاد الفضاءات المخصصة للحماية من حرارة الشمس أو هطول الأمطار تكون معدومة، رغم أن الانتظار يطول لأكثر من نصف ساعة أحيانا، ما ينبئ الراكب بأن رحلته لن تكون عادية. تدخل الحافلة فترى البؤس مرتسما على الوجوه، وتشهد معاناة النساء اللواتي، رغم تقدمهن في السن، ما زلن يكافحن لتأمين لقمة العيش، فمسنة تخبر أخرى أنها تركب يوميا حافلتين وتمشي عشرات الكيلومترات لتصل إلى سوق "الهجاجمة". "الحافلة 13" ليست مجرد وسيلة نقل، بل فضاء مفتوح للنقاش، قد يتحول أحيانا إلى جدال يصل حد القسوة والعنف، فداخلها تسمع حكايات المرحلين من منازلهم لأسباب شتى، وتصغي إلى قصص من حصلوا على الدعم الاجتماعي، وهم يشكون منه، لأنه لا يكفي حتى ليوم واحد من احتياجاتهم الغذائية، وهناك المتقاعدون الذين تجمدت ملامحهم كما تجمدت معاشاتهم، فيروون أحزان سنوات خدمة ضاعت هباء. في "الحافلة 13" ينكشف زيف شعارات الرقمنة والتحديث، و"الويفي" المجاني لا يعمل، والاكتظاظ الناتج عن قلة الحافلات المخصصة لهذا الخط يتحول إلى تحرش وسرقة. وفي هذا الفضاء الضيق، تبرز مظاهر أخرى للتناقض، فهناك شباب يستمعون إلى الموسيقى عبر سماعاتهم، غارقين في عالمهم الخاص، بينما يتبادل آخرون أخبار اليوم بصوت عال، من أزمة غلاء المعيشة إلى الوعود التي تبخرت، تلك الأصوات تختلط بصورة "طبيب شعبي" يبيع "مرهما" يعالج آلام المفاصل والأنفلونزا وضيق الصدر و"الشقيقة" بـ 10 دراهم. تفاصيل فيلم "احنا بتوع الأتوبيس"، كما قال عادل إمام في فيلمه، هينة مع تفاصيل النقاش في "الحافلة 13" بالبيضاء، فالمعاناة ليست مجرد مشهد سينمائي، بل واقع يومي يلخص تناقضات مجتمع يعيش على هامش الحياة، والحافلة ليست مجرد هيكل معدني وعجلات، بل صرخة يومية تدوي. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma