تشريع يتناقض مع ما نص عليه الدستور من إخضاع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة (2/2) أشير في البداية الى أن الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، الذي انطلق سنة2012، تطلب إنجاز مقاربة نوعية تعتمد الحوار الجماعي تشارك فيه كل الفئات المهنية والجامعية والمجتمعية، بهدف بلورة إصلاح جامع وفعال، ثم ضمان التوافقية الضرورية، وتحصيل المقبولية الممكنة. ولذلك كانت هناك هيأة عليا للحوار الوطني إضافة إلى فعاليات حوارية مختلفة. بقلم: المصطفى الرميد (*) التراجعات المذمومة إن ما سنسجله من تراجعات لن نتعرض فيه إلا ما يبدو لنا غير مقبول مطلقا، أو ما يخالف المرجعيات المعلنة، وهي الدستور والاتفاقيات الدولية، والتي أشار إليها تقديم وزارة العدل للمشروع، وهي بالمناسبة، وهي تراجعات قليلة، لكنها بالغة الأهمية، كما سيأتي بيانه. 1 - غل سلطة النيابة العامة في محاربة الفساد ومنع الجمعيات من تبليغها عن المس بالمال العام أما في ما يخص غل سلطة النيابة العامة عن محاربة الفساد، فواضح مما تضمنته المادة الثالثة من المشروع من أنه لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية إلا بطلب من الوكيل العام لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارة أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، أو كل هيأة يمنحها القانون صراحة ذلك، باستثناء حالة التلبس التي تتيح للنيابة العامة الأمر بإجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية. وهذا يعني أن النيابة العامة في عموم المملكة لم تعد لها سلطة المتابعة إلا بناء على طلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، الذي أيضا لم تعد له سلطة الأمر بالبحث وبالمتابعة إلا إذا توصل من المؤسسات المذكورة بتقارير الجرائم المالية. إن الأمر يتعلق بتشريع لا مسوغ له مطلقا، ولا مبرر له إلا التضييق من مداخيل المساءلة، وحصرها في أضيق الحدود. إنه تشريع يتناقض مع المبدأ الدستوري الناص على إقران المسؤولية بالمحاسبة. إنه تشريع يتناقض مع ما نص عليه الدستور من إخضاع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة. إنه تشريع مشجع على الفساد، ومحصن له من سلطة النيابة العامة التي لا مبرر لتقييدها بقيود لا أساس لها. نعم، إن البحث في جرائم الفساد المالي يتطلب معطيات موضوعية توفرها التقارير المذكورة، لكن المشروع أسرف في الاشتراط المطلق لتلك التقارير، مع أن الأمر لا يتطلب ذلك دائما. ومن جهة أخرى، فإن المشروع إذا أقصى الأفراد والمؤسسات المجتمعية من تقديم شكايات في موضوع الجرائم المالية، إلا إذا توفرت لها تقارير رسمية، يتناقض مع الدور الدستوري خاصة للجمعيات، إذ نص الفصل 12 على أحقيتها في تقييم قرارات المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، ومعلوم أن التقييم يرتب واجب التبليغ عن الاخلال المسجل، وإلا فما قيمته وأهميته؟ ومن جهة أخرى يتناقض هذا التصميم مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي نصت في المادة13 على أن على كل دولة أن تتخذ التدابير المناسبة لتشجيع أفراد وجماعات لا ينتسبون إلى القطاع العام، مثل المنظمات غير الحكومية، على المشاركة في أنشطة منع الفساد ومحاربته. إن المشروع، بناء عليه يسير في الاتجاه المعاكس للاتفاقية المذكورة، ويكرس نكوصا اتفاقيا سيئا، لا يليق بالمملكة المغربية، وطموحها، وهو ما يجعلنا نؤكد أنه لا يجوز للمملكة، بأي حال أن تسقط في هذا المستوى التشريعي البئيس الذي لا مبرر له. لذلك، فإني أناشد عقلاء هذه الدولة أن يرجعوا الأمور إلى نصابها، وإذا كان هناك ما يدعو إلى محاربة الابتزاز الجمعوي الحقوقي المقيت المتستر برداء محاربة الفساد، فإن المؤكد أن هذا النص ليس إلا بمثابة غسل الدم بالدم. ذلك أنه من المفيد منح النيابة العامة صلاحية التأكد من جدية الشكاية، من منطلق منحها الوثائق والحجج المستند إليها، وبذلك تتم المساواة بين البقاء على حق الأفراد والجماعات في التبليغ عن الفساد المالي، والوقاية من التعسف في الشكايات، وابتزاز الأغيار بها. وإن مما يؤسف له، أن يتم أيضا تقييد حق الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة في الانتصاب طرفا مدنيا، بضرورة الحصول على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، حسب ضوابط يحددها نص تنظيمي، كما نصت على ذلك المادة 7 من المشروع، مع أنه يمكن الاكتفاء بشروط صفة المنفعة العامة، وأقدمية الأربع سنوات، وأن الجريمة محل المتابعة تمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي، والذي يبقى للمحكمة المختصة سلطة مراقبته. إنه تعسف آخر، وتضييق آخر، يضاف إلى ما سبق، يؤكد باختصار، أنه يراد تكريس الدور التقليدي للجمعيات، والذي يقتصر على مجرد إصدار البيانات، وتنظيم الاحتجاجات، دون الحق في الاشتغال من خلال المؤسسات!!! 2 - محدودية الضمانات الحقوقية للشخص المودع رهن الحراسة النظرية إن الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة اهتم بهذا الموضوع اهتماما بالغا، وكيف لا يكون ذلك، والبحث خلال هذه المرحلة يحدد غالبا مصير الشخص المتابع أمام القضاء؟. لذلك جاءت في التوصية 80 من ميثاق إصلاح منظومة العدالة، ضرورة مراجعة الضوابط القانونية لوضع الأشخاص تحت الحراسة النظرية، باعتماد معايير أكثر دقة ووضوحا، وهو ما تضمنه النص، مع ما يمكن أن يلاحظ عليه. كما جاءت التوصية 82، بالإرشاد إلى الاستعانة في إنجاز المحاضر بتسجيلات سمعية بصرية. وعلى هذا الأساس، فإن مسودة مشروع القانون المنجزة في 2013 كانت تنص على التسجيل السمعي البصري لاستجوابات الأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية المشتبه في ارتكابهم جنايات أو جنحا، وإرفاق ضابط الشرطة القضائية لنسخة من التسجيل يضم إلى وثائق الملف، والذي يمكن اطلاع المحكمة عليه في حالة المنازعة. وقد تضمنت المسودة أيضا النص على إمكانية حضور المحامي مع الشخص المستجوب من قبل الشرطة، إذا لم يكن موضوعا تحت الحراسة النظرية. غير أنه للأسف الشديد، وقع تراجع عن كل ذلك بمقتضى ما جاء في المشروع، إذ أن التسجيل السمعي البصري لا موجب له، إلا إذا تعلق الأمر بجناية أو جنحة يعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر، مع العلم أن خطورة مرحلة الحراسة النظرية والمحضر الذي ينجز خلالها، يبدو أكثر حدة في الجنح التي غالبا ما يعاقب عليها بخمس سنوات حبسا أو أقل، بحكم الحجية المقررة له، وبالتالي فليس هناك أي حماية للشخص المعني بها في ما تم النص عليه في هذا المشروع. ومن جهة أخرى فإن الاقتصار على التسجيل السمعي البصري خلال مرحلة تلاوة المحضر وتوقيعه من عدمه، يجعل الضمانات المقررة للموضوع رهن الحراسة النظرية في كل الأحوال هشة، مع العلم أن الآليات الأممية التابعة للأمم المتحدة لها رأي آخر، كما سيأتي بيانه. وأن مما يجدر ذكره، أن الصيغة التي جاء بها النص، من حيث إن التسجيل السمعي البصري لا ينجز إلا بشأن الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر، سيجعل صاحب اليد الطولى في التكييف هو الشرطة القضائية، والمشكل يزداد حدة إذا لم يتم إنجاز هذا التسجيل السمعي البصري تقديرا من الشرطة القضائية أنه لا موجب له باعتبار أن الجريمة محل البحث تقل عقوبتها عن خمس سنوات. ما مصير الاعترافات في هذه الحالة؟ إن المصير المحتوم في هذه الحالة هو البطلان، لكن الذي ستؤول إليه الأمور في كثير من الأحيان هو الخضوع للتكييف الضبطي، خلافا لما يجب، حتى لا يؤدي التصريح بالبطلان إلى الإفلات من العقاب. وجدير بالذكر أن الآليات الأممية، خاصة منها الفريق العامل المعني بالاعتقال التعسفي ولجنة مناهضة التعذيب على سبيل المثال، لا يعترفان بالقانون الداخلي للدول، طالما أنه مخالف للمعايير الدولية التي تنص عليها المواثيق والاتفاقات الدولية المصادق عليها. لذلك فانه متى لم يحظ الشخص المودع رهن الحراسة النظرية بمؤازرة محام، فإن اعتقاله يعتبر تعسفيا، إذا ادعى ذلك، باعتبار أن المحامي يعتبر ضمانة أساسية في هذه المرحلة. وهكذا على سبيل المثال، جاء في البلاغ الموجه إلى الحكومة المغربية في 28 فبراير 2012 تحت رقم 40\2012 ما يلي: (القضية قيد النظر تتعلق بشخص تم توقيفه واتهامه ومحاكمته وإدانته بالاستناد إلى اعترافات انتزعت منه تحت التعذيب. ولم يستفد هذا الشخص من مؤازرة محام أثناء خضوعه للاستجواب. وتراجع المتهم عن اعترافاته فور حصوله على استشارة قانونية. واستندت إدانته حصراً إلى ما أدلى به من أقوال). كما أن الفريق نفسه صرح في البلاغ الصادر بتاريخ 18.22 نونبر 2019 الموجه إلى الحكومة المغربية تحت عدد 67\2019 أنه (يعتد بادعاءات المصدر طالما أن الطلبة المعنيين لم تتم مؤازرتهم من قبل محام حين توقيفهم، وعند تقديمهم أمام قضاء التحقيق....). كما أن الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي، ولجنة مناهضة التعذيب لا يعترفان بما تضمنه المشروع من أحقية النيابة العامة كلما تعلق الأمر بوقائع تشكل جناية أو جريمة ارهابية في تأجيل الاتصال بمحام بالنسبة إلى المشتبه في ارتكابهم جرائم الإرهاب لمدة نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية، وهو ما يصل إلى 48 ساعة، وهكذا جاء في البلاغ الصادر عن الفريق نفسه بتاريخ 26 غشت 2013 الموجه إلى الحكومة المغربية تحت عدد2013.25 مايلي: (ان فريق العمل يشير إلى أن لجنة مناهضة التعذيب في ملاحظاتها النهائية، نصت على أن قانون الإرهاب رقم 03. 03 يمدد مدة الحراسة النظرية إلى 12 يوما، ولا يسمح باتصال الشخص المعني بها إلا بعد مرور 6 ايام يضاعف من مخاطر التعذيب للأشخاص المحتجزين) وقد اعتمد الفريق هذا الرأي للقول بالانتحار التعسفي للشخص المعني. إن الأمثلة على البلاغات التي استقرت على هذا الرأي كثيرة ومتعددة، ولذلك ينبغي اعتبار ذلك في مشروع قانون المسطرة الجنائية، نزولا عند ما تستلزمه الاتفاقيات الدولية المصادق عليها طبقا للدستور، وتفاديا للملاحظات المتكررة والبلاغات العديدة الصادرة عن الهيآت الأممية بهذا الخصوص. وإذا كانت هناك ظروف موضوعية يتعذر معها تشريع حضور المحامي استجوابات الأشخاص أمام الشرطة القضائية، فإنه من المفيد تشريع حضوره أثناء البحث التمهيدي ابتداء من مرور سنة على بداية نفاد النص، وخمس سنوات بالنسبة إلى الأشخاص المودعين رهن الحراسة النظرية. إن هذا الاقتراح يزاوج بين الالتزامات الدولية للمملكة من جهة ويستحضر الصعوبات المختلفة لتنزيل هذا الاختيار التشريعي في إطار من التدرج المعقول. 3 - الاشتراط المالي المرهق للطعن بالنقض إن مما يؤسف له أن قانون المسطرة الجنائية القديم كان ينص على وجوب إيداع مبلغ ألف درهم ضمانة، مع مذكرة النقض، أو داخل الأجل المقرر لإيداعها في الحالات التي لا تكون فيها المذكرة إجبارية، إلا في حالة العوز، المثبت بالوثائق، وفي حالة عدم الإيداع فإنه يترتب عن ذلك سقوط الطلب، إلا أن البرلمان عدل المادة 530 من القانون المذكور، حيث تم النص على أنه لا يترتب عن عدم إيداع مبلغ الضمانة سقوط الطلب، غير أنه يجب على محكمة النقض أن تحكم بضعف الضمانة في حالة رفض الطلب. وإذا كان ذلك قد أدى الى تضخم في الطعون الجنائية، فإن الحل ليس هو رفع الضمانة الى 5000 درهم، وترتيب سقوط الطعن في حالة عدم الإيداع، لأن ذلك سيؤدي إلى تعطيل العدالة في كثير من الأحيان وإلى اختلال ميزانها بحرمان فئات من الحق في الطعن بالنقض لأسباب مادية. لذلك ينبغي، وقد تم رفع الضمانة إلى مبلغ 5000 درهم، ترتيب الجزاء المنصوص عليه في النص الحالي، وهو الحكم وجوبا بضعف مبلغ الضمانة في حالة رفض طلب النقض، وليس سقوط الطلب. إنها إذن، ثلاث ملاحظات نعتبرها في غاية الأهمية، وجديرة بالمناقشة وتدقيق النظر، ضمن أخريات أقل أهمية، لم نر ما يدعو للوقوف عليها، غير أن ذلك لا ينقص من أهمية المشروع، والجهد المبذول في انجازه سواء من قبل المعنيين به في مرحلة العشرية الثانية من هذا القرن، أو هذه العشرية الثالثة. إن من شأن الأخذ بالملاحظات المذكورة، وما ستسفر عنه النقاشات العلمية الرصينة، أن يؤدي إلى الارتقاء بالنص إلى ما نطمح إليه جميعا، هو أن يتم التحاكم في المملكة المغربية إلى مسطرة جنائية تحمي الحريات، وتضمن الحقوق، وفق ما نص عليه الدستور وتستجيب للمعايير الدولية التي قبل المغرب الأخذ بها، من خلال ممارسته الاتفاقية. (*) وزير العدل السابق محام بهيأة البيضاء