رائد «الحلقة» الذي سلط قصائده لتشريح أعطاب المجتمع والإنسان يشكل الفنان عبد الكريم الفيلالي امتدادا لرموز فن "الحلقة" الذين بصموا على حضور لافت في زمن الأسطوانات والكاسيت. تميز أسلوب الفيلالي باعتماده على قوة الكلمة وبلاغتها كما تعكسها قصائده وأغانيه التي شرّح فيها أعطاب المجتمع والطبائع البشرية، كما وثق من خلالها لمحطات مختلفة من تاريخ المغرب. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى عالم هذا الفنان الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب ظل فن الحلقة على امتداد قرون طويلة يقوم بدور الترويح والتنفيس لدى الجمهور الشعبي العريض، بتقديمه في الساحات والأسواق والمواسم ألوانا من الفكاهة والمواقف الضاحكة الممزوجة بفواصل من الطرب والعزف والصلاة على النبي، قبل أن يتزعزع عرشها وسلطانها مع وفود الفنون العالمة على المغرب واكتساح مشهدنا من قبل قادمين جدد، خلال العشرينات التي شهدت لأول مرة بروز الفنون الحديثة من مسرح وسينما وغناء عصري. وكان الراحل عبد الكريم الفيلالي واحدا من الفنانين الذين صنعتهم الحلقة، مثلما صنعوها، وطوروا أساليبها الفرجوية، ليستقطبوا بها جمهورا ظل وفيا لأسلوبه ويحفظ منجزه الغنائي، حتى بعد انتقاله إلى وسائط أخرى بدءا بالأسطوانات وأشرطة الكاسيت وصولا إلى منصات العرض الحديثة. صنف الباحث الراحل علال ركوك الفنان عبد الكريم الفيلالي (1930 ـ 2017)، في كتابه "موسيقى آسفي.. نماذج وتجليات" ضمن ما أسماه "ظاهرة الغناء المنفرد" وحدد خصائصه في أن يقوم شخص واحد بأداء نوع من الغناء الموازي للعزف على آلة وترية وفي الغالب تكون "الكنبري"، ومقطوعات هذا النوع عبارة عن "اقصايد" أي كلاما يعتمد السجع في تركيبه، وتحدد مواضيعه في ذكر سير الأنبياء والأولياء، وبعض الظواهر الاجتماعية مثل التدخين والسكر. كما تتناول هذه القصائد بعض الظواهر المتعلقة بموجات عالمية مثل ظاهرة "الهيبي"، ولا يخلو الأمر من الوعظ والإرشاد والتذكير بالموت واليوم الآخر، كما لا تغيب عن هذا النوع من "القصايد" الأحداث الوطنية والقومية. حفيد فقيه السلطان استعرض نجله الباحث مصطفى الفيلالي في تقديمه للإصدار التوثيقي بعنوان "الحكاية ذاكرة وطن.. شيخ القصيد الفنان عبد الكريم الفيلالي.. نظما وأداء وفرجة" الصادر عن منشورات "رابطة كاتبات المغرب" محطات من سيرة والده. وذكر أن عبد الكريم الفيلالي من مواليد 1930 بزاوية امزيلات بقبيلة الشياظمة بإقليم الصويرة، ويتحدر جده من منطقة تافيلالت، إذ كان عالما وفقيها يعمل بالديوان الخاص للسلطان مولاي عبد الرحمن، وبعده السلطان محمد الرابع، من 1822 إلى 1859، قبل أن يحط الرحال بقبيلة امزيلات فقيها وإماما. تتلمذ عبد الكريم الفيلالي على يد والده الفقيه سيدي محمد بن مولاي امحمد الذي كان يشتغل بالقضاء والعدلية، فضلا عن مهامه إمام مسجد وفقيها، وتلقن أصول الدين وحفظ القرآن بكتاب المسجد إلى جانب أبناء المنطقة. وبحكم أن الوالد كان مرتلا للقرآن ومنشدا يتمتع بصوت رخيم، فقد تأثر عبد الكريم به، خاصة أنه كان أصغر أبنائه، وكانت له حظوة عنده، فكانت بداية تعلقه بالأنغام وقصائد المديح النبوي. كما كان للطوائف الروحية التي ترتاد الأسواق الأسبوعية بمناطق الشياظمة، أثرها على نفسية الطفل عبد الكريم ودورها في توجيهه نحو شغف مبكر بفنون الفرجة، فكان يلهو بآلات موسيقية بدائية من صنعه مثل الناي أو آلة لوتار، رغم معارضة والدته، في المقابل كان والده يشجعه لكن شريطة أن لا يفرط في تعليمه الديني ودراسته للقرآن. لكن الظروف لم تظل على حالها إذ سرعان ما باغت الموت والد عبد الكريم وسنه لم تتجاوز العاشرة، قبل أن تلحق به والدته بعد بضعة أشهر فقط، ليواجه الموت في سن مبكرة، فيقرر الانتقال رفقة شقيقته، التي كانت حديثة العهد بالزواج، وزوجها إلى منطقة "ثلاثاء بوكدرة" بمنطقة عبدة بإقليم أسفي. "كازا" الأربعينات اضطر عبد الكريم إلى الاعتماد على نفسه في تحصيل قوته، فاشتغل في البداية عطارا يجوب الدواوير على دابته، ليساعد أسرة شقيقته في مصاريف البيت، كما أن الظروف القاسية التي كان يعيشها المغرب بفعل الجفاف وتبعات الحرب العالمية الثانية، دفعته للهجرة وحيدا نحو الدار البيضاء. وبالعاصمة الاقتصادية سيكتشف عالما جديدا، ضاجّا بالحركية، وسيجد نفسه موزعا ما بين الرغبة في مواصلة تعليمه الديني، والرغبة الجارفة في الاستسلام لشغفه الخاص بفنون الفرجة والحلقة. وهكذا سيلتحق عبد الكريم الفيلالي بمسجد "افتيحات" بالمدينة القديمة، حيث سيواصل تعليمه صباحا، وبعد الزوال يرافق شيخه الضرير الحسين المرابط، الذي تعرف عليه بإحدى الساحات التي كانت تحتضن "لحلاقي" فاقترح عليه أن يقيم عنده في بيته وبين أفراد أسرته، على أن يتكلف بأمر قيادته وملازمته. وفي تلك الفترة، وعن طريق شيخه الضرير، تعرف عبد الكريم على رموز الحلقة من شيوخ ومداحين ونظّام، مثل الشيخ محمد المسكيني والشيخ الحسين السكوري والشيخ الحسين السوسي، الذين حفظ عنهم العديد من قصائد الملحون والقصائد الشعبية والحكايات المتداولة بساحات الفرجة. قرر عبد الكريم الفيلالي اقتحام عالم "الحلقة"، وسنه لا تتجاوز الرابعة عشرة، ابتداء من الساحات الشهيرة بدرب السلطان مثل "بوشتنوف" و"البلدية"، كما تعرف خلال تلك الفترة على شخص جزائري يدعى "العربي الواسطي" ساعده في بدء تجارة الكتب إذ كان يزوده بالسلع المطلوبة. وبدأ الفيلالي يجمع بين تجارة الكتب وتقديم الفرجة بالحلقة في الوقت نفسه، وكان مدمنا على مطالعة كتب السير الشعبية، التي كان يشتغل على مواضيعها ويعيد تقديمها في قصائد اجتهد في نظمها، مستفيدا من مخزون القصائد التي كان يحفظها، إضافة إلى اعتداده بأصوله الفيلالية التي كان يستمد منها الشرعية في محاكاة قصائد الملحون التي تعود جذورها إلى واحات هذه المنطقة. كما كان الفيلالي يتردد على ساحات الفرجة بوسط الدار البيضاء خاصة بفضاءات "الباب الكبير" و"البحيرة" وهناك كان يقدم قصائد موضوعها من سير الأنبياء وقصصهم، كانت تجد لها صدى وجمهورا حتى بين يهود المدينة القديمة الذين كانوا يستمتعون بهاته القصص التي كان يلقيها الفيلالي بطريقة غنائية مميزة. لم يطل مقام الفيلالي بالدار البيضاء إذ سرعان ما توجه إلى سطات، حيث استقر بها لفترة، ثم انتقل إلى مدن أخرى مثل واد زم وبني ملال ومراكش، بل سيقوده تجواله إلى تلمسان وسيدي بلعباس بالجزائر. مقاومة وسجن في سنة 1952 استقر الفيلالي بواد زم وهناك تزوج وكوّن أسرة، وفي الوقت نفسه سينخرط في صفوف المقاومة بالفرع المحلي لمنظمة الهلال الأسود، واشتد نشاطه الوطني أكثر بعد نفي السلطان محمد الخامس في السنة الموالية، لدرجة أنه سيلقى القبض عليه من قبل البوليس الفرنسي، بعد وشاية من أحد المتعاونين مع الاستعمار، ليتم الزج به في سجن خنيفرة لمدة أربعة أشهر مصحوبة بحصص من التعذيب، قبل أن يتم نفيه إلى مسقط رأسه، ومن هناك سيعود إلى آسفي التي سيستقر بها إلى نهاية حياته في 26 يناير 2017. وفي آسفي تدرج عبد الكريم الفيلالي بالعديد من الفضاءات التي كانت تحتضن فرجة الحلقة مثل "باب الشعبة" و"تراب الصيني" و"الكورس"، ومن بين الطرائف التي حكاها الراحل خلال مروره ببرنامج "صناع الفرجة" الذي يبث على القناة الأولى، أنه لحظة التحاقه بآسفي، زار خالته التي طلبت منه طلبا غريبا وهو أن لا يخبر الناس في المدينة بأنه ابن أختها ما دام يمتهن حرفة "حلايقي"، فاستجاب لطلبها. وفي إحدى المرات كانت خالته تمر منقبة بإحدى الساحات، فاسترعى انتباهها ابن شقيقتها وهو يتوسط "حلقة" وجمهور غفير يتحلق حوله، وهو ينشد قصائده، فشرعت تلكز الحاضرين بمرفقها وهي تقول لهم "أقسم لكم أن هذا ابن أختي"... تجاوز رصيد الفنان عبد الكريم الفيلالي 120 تسجيلا، إذ كان من رواد الفنانين المغاربة الذين تعاملوا مع شركات الأسطوانات المغربية مثل "مكاويفون" و"كازافون" و"أطلسيفون" و"الحسنية"، إضافة إلى تسجيلات أخرى بالإذاعة الوطنية خلال مناسبات وطنية مختلفة. من الأسطوانة إلى "يوتوب" من أشهر القصائد والأغاني التي سجلها عبد الكريم الفيلالي على الأسطوانات هناك قصيدة "بوفسيو والسبع" والتي قال عنها الباحث علال ركوك إنها تعالج موضوع الزعامة ومركز الرئاسة في الغابة، بين السبع وأحد الطيور وهو "بوفسيو"، وهو طائر صغير الحجم. ويضيف ركوك أن استعارة مثل هاته الأحداث واختيار أبطالها من بين حيوانات الغابة إضافة إلى اختيار أساليب فنية مثل الرمزية، كل هذه المميزات تنم عن دراية الناظم بالوضع الذي يتكلم عنه، وكذلك اقتناعه بالخطاب الذي يمرره للمتلقي. كما اشتهر الفيلالي بقصائد أخرى سجلت على أسطوانات وأشرطة كاسيت، ووجدت طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي ويوتوب، منها قصيدة "رحلة الحج" و"قصبة شداد" و"مول الشراب مع الكيف" و"العزري مع المزوّج"، و"الهيبي" و"شط البحر" وغيرها.