جنازة رجل استثنائي

آلاف المشيعين ودعوا الفقيد محمد بنسعيد إلى مثواه الأخير في قبر يجاور اليوسفي وإبراهيم وجبران كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء، حين بدأت أشعة شمس شبه حارقة، تميل ناحية الغروب من الطرف الآخر لمقبرة الشهداء بالبيضاء، وتلقي بخيوطها على سعف نخيل شديد الخضرة، وضع فوق الراحل المجاهد محمد بنسعيد أيت إيدر. في هذا الوقت، ما بعد عصر أول أمس (الأربعاء)، بدأت حشود المشيعين والمشيعات، الذين حجوا بكثافة من كل مكان، ينسحبون خارج المقبرة بعد إنهاء مراسم الدفن الأخير، باستثناء رجل نحيل يعتمر قبعة، وسترة بنية، اقترب بخطوات متثاقلة من القبر، وقف بجانبه، وأطلق نحيبا خفيفا، وطلب من أحدهم التقاط صورة للذكرى. كان عبد الله أعكاو، أحد مختطفي معتقل تازمامارت، الذي جاء من بعيد، لإلقاء الوداع الأخير على رفيق درب، خاض معه معركة الحرية والانعتاق من السجن الرهيب، ومعركة الكرامة والبناء الديمقراطي في انتخابات جماعية، أقسم إدريس البصري، وزير الداخلية القوي، أن تمر على جسمه. إعداد: يوسف الساكت / تصوير: (أحمد جرفي) لم يكن بعض معتقلي سجن تازمامرت، الباقون على قيد الحياة، وحدهم تجشم عناء السفر ، منذ الساعات الأولى لصباح أول أمس (الأربعاء)، إلى عين الشق بالبيضاء، حيث توجد إقامة الفقيد محمد بن سعيد أيت إيدر، بل جاء رفاق الدرب والرفيقات من كل مكان، اضطرت معها إدارة الأمن والقوات المساعدة إلى تعبئة عدد كبير من العناصر للتحكم في التدفق البشري الذي ظل يتقاطر على خيمة كبيرة نصبت في ساحة عامة، لإلقاء السلام الأخير. الوفاء للقضية في زاوية، قرب الخيمة، وضع جثمان الراحل، الذي وصل صباح اليوم نفسه من المستشفى العسكري بالرباط، إذ وضع في صندوق خشبي، وسجي بالعلمين الوطنيين للمغرب وفلسطين، ونثرت فوقه ورود محبة وأمل وعهد على مواصلة الطريق. كلهم كانوا هنا، قبل الموعد، بكثير وبعضهم جاء من مدن بعيدة وأقاليم الشمال، ومناطق الجنوب وثخوم شتوكة أيت باها، وسوس العالمة، ومن مدن الصحراء، والشرق وورزازات وزاكورة، وآخرون أتوا من مدن أوربية قريبة، لإلقاء النظرة الأخيرة على رجل لن يجود الزمن بمثله. وحيد في عطائه وكرمه، ونبيل في نضاله و"مشهود له بدماثة الخلق وبالخصال الإنسانية الرفيعة، إذ كان مثالا للوطنية الملتزمة والوفاء للمبادئ"، كما ورد في برقية تعزية من الديوان الملكي توصلت بها أسرة الراحل في اليوم نفسه من الدفن. وقال جلالة الملك إن المغرب يفقد رائدا من رواد المقاومة المغربية، وأحد أبنائه البررة الذي نذر حياته لمقاومة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، والدفاع عن حرية المغرب واستقلاله وكرامته، والذود عن وحدته الترابية، في تشبث مكين بثوابت الأمة ومقدساتها". جنازة سلسة في الثالثة ونصف بعد الزوال، وبعد التأكد من جميع الإجراءات الأمنية والتنظيم، انطلق الموكب الجنائزي مخترقا أحياء عمالة عين الشق، وصولا إلى الطريق السيار، ومنه إلى قنطرة "ولاد زيان"، ثم مشارف مقبرة الشهداء، إذ توقفت القوافل الطويلة للسيارات والمشيعين عدة مرات، لفك الاختناق المروري في هذه المحاور، وسط حرص كبير من رجال شرطة المرور الذين بذلوا مجهودات كبيرة لتسهيل العملية. وفي الرابعة ونصف بعد الزوال، طل الموكب من شارع عبد الكريم الخطيب، حيث يقتضي البروتوكول أن يفسح المجال إلى وفد الأمير مولاي رشيد، الذي ترأس الجنازة، رفقة أفراد من أسرة الفقيد ورجال السلطة بالبيضاء، على رأسهم والي البيضاء-سطات، وعدد من الشخصيات الأخرى. في الساحة المقابلة للمقبرة، وضعت سياجات حديدية، لم تمنع مئات المشيعين من الالتحاق، في لحظة للتاريخ، وتسجيل الوداع الأخير الذي كان لابد أن يحضره جميع الأوفياء الذين ارتبطوا بالفقيد بذكرى، أو مناسبة، أو موقف. فمن الزعماء السياسيين، حضر عدد من الوجوه، يتقدمها نزار بركة الأمين العام لحزب الاستقلال، وإدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، ونبيل بن عبد الله، الأمين العام للتقدم والاشتراكية، وجمال العسري، الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد، وممثلون آخرون عن الطيف النقابي والجمعوي والحقوقي، وآخرون عن أحزاب اليسار والعدالة والتنمية والعدل والإحسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان. خصال بعد الموت رجال ونساء وأجيال مختلفة، بعضهم يلتقي لأول مرة، وبعضهم يلتقي بعد سنوات من الغياب. فـ"كما نجح بنسعيد في جمع شتات اليسار السياسي والحقوقي في حياته، ها هو يفعل الشيء نفسه بعد رحيله"، يقول عضو بالنهج الديمقراطي، وهو يعصر قنينة ماء صغيرة في يده ويحمي وجهه بكفه من أشعة الشمس. بعد صلاة الجنازة، حمل النعش ووضع في سيارة إسعاف لم تكد تتجاوز البوابة الرئيسية حتى توقفت، قرب قبرين متلاصقين، كتب على رخاميتهما: المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، وعبد الله إبراهيم، وخلفهما مباشرة، حفر قبر رفيقهما محمد بنسعيد، قرب شجرة صغيرة، وخلفه قبر الراحلة ثريا جبران، الفنانة ووزيرة الثقافة سابقا. قرب القبر، وبعد أن ووري التراب على الجسد الذي حمل روحا بحجم وطن على مدى تسعة عقود، سحب عبد اللطيف اليوسفي، رفيقه في النضال والاجتهاد والصبر، كلمة تأبين، تلا كلماتها الحرى، دموعا ونحيبا، ولم يكن هذا المراكشي اللطيف يعتقد أنه سيقف يوما في هذا المقام من النعي والبكاء والفقد. عبد اللطيف اليوسفي ينعي بنسعيد "طوبى لك رفيقنا بهذا السمو والشموخ ونم قرير العين فإننا على دربك سائرون" أحبتنا ورفاقنا وأصدقاءنا، ها نحن نودع الآن رمزا شامخا من رموز الوطنية والكرامة والديمقراطية نودعه تراب هذه الأرض التي أدمن حبها ودافع بالغالي والنفيس عن استقلالها وناضل لصيانة وحدتها وكرامة مواطناتها ومواطنيها . بقلوب خاشعة وعيون دامعة نودع اليوم رمزا استثنائيا من رموز وطننا، رمزا استقطب محبة واحترام كافة شرائح المجتمع المغربي ،وتقدير مكوناته السياسية الوطنية بفضل تلك المصداقية الأصيلة التي ظل المناضل محمد بنسعيد يمثلها على امتداد حياة حافلة بالحركية والعطاء والبذل والفعل وإطلاق المبادرات منذ مرحلة الكفاح الوطني والمقاومة من أجل حرية الوطن واستقلاله، إلى مراحل الدفاع المتعدد الأشكال والواجهات عن الديمقراطية والكرامة والعدالة والحرية والمساواة الفعلية . نعم نودعك رفيقنا العزيز تراب وطن وفيته حقه من نضالك وكفاحك فكنت في كل خطوة من خطوات هذه المسيرة الحياتية الحافلة مصرا على تحقيق العزة والكرامة والديمقراطية، مناضلا شامخا كبيرا مابدلت قناعاتك أبدا ولا قايضت موقفا بامتياز . من أجل هذه القيم اليسارية المناضلة والوطنية المتجددة، ناضلت رفيقنا ليكون الوطن مستقلا فعلا وعزيزا وكريما وديمقراطيا ينعم بكافة بناته وأبنائه. وفي هذا المسار النضالي الحافل يشهد لك الجميع بأنك لم تساوم أو تقايض مبادءك بنعيم الكراسي و إغراءات الامتيازات فكانت يدك دوما ناصعة البياض بل ظلت يدك دائما هي العليا إلى آخر رمق .وكنت في كل المراحل معارضا قويا ومحاورا من أجل التغيير عارضت السياسات وحاورت المؤسسات من أجل الوطن والكرامة والديمقراطية. من أجل الوطن، من أجل الشعب، من أجل التغيير، من أجل الديمقراطية، من أجل الإنصاف الثقافي واللغوي لكل مكونات الشعب المغربي وتفاعلها المنتج، من أجل الفضاء المغاربي المتعاون والمتعاضد والآمن، من أجل استقلال الشعوب وقضاياها المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي ظلت إلى آخر لحظة قضيتك الوطنية التي تشغل بالك باستمرار، باحثا ومبادرا ومناديا بحشد الدعم للشعب الفلسطيني وحمايته ومناهضة التطبيع مع العدو المحتل . ومن أجل المواطنة الحقة، كنت دوما وفي كل المراحل والمحطات في صف الشباب قوة التغيير بنفس القوة الهادئة والإصرار الذي لا يلين والوضوح. كنت تساند مطالب الحركة النسائية المغربية ليتحقق الإنصاف وتتحقق المساواة الفعلية. من أجل كل ذلك وغيره ناضلت وكافحت دون كلل أو ملل. في بيتك وحياتك وحزبك كنت ديمقراطيا حتى النخاع، بحيث نشهد لك أن كنت المناضل المنضبط لقرارات الأغلبية والمصرف لها باجتهاد وذكاء حتى لو كنت في الأصل ضدها، وكم هي المرات التي سجلت فيها هذا السلوك الديمقراطي لتعلمنا كيف يكون الانضباط وفي كل المؤسسات، التي عملت بها بما فيها المركز الذي يحمل اسمك كنت تناقش المشاريع المستقبلية وتشجع المبادرات وتحترم الهياكل والمسؤوليات وكانت نظرتك مشرئبة دوما إلى الأمام وإلى المستقبل. لكل هذا وغيره كثير، كنت وستظل في ذاكرة شعبك وذاكرة رفيقاتك ورفاقك وفي ذاكرة المخلصات والمخلصين من أبناء وطنك مناضلا استثنائيا، يعتز بك شعبك ووطنك، ولم تنزع أبدا إلى فرض رأي بسلطتك ووضعك الاعتباريين، لذلك صاحبت التجارب الفتية واحتضنت القيادات النسائية وشجعت المبادرات الشابة بسلوك منفتح دوما على المستقبل . فطوبى لك رفيقنا بهذا السمو والشموخ، وإن أسرتك وحزبك ومركزك ليشهد لك أنك كنت ديمقراطيا بامتياز. فنم قرير العين رفيقنا، فإنا على دربك سائرون وملتزمون.

جنازة رجل استثنائي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

دجيمي... رفقة السلاح والنغم

إسبانيا تطيح بقاتل زوجته بالعرائش

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات