العربي باطما… “مجذوب الغيوان”

ذكرى رحيل فنان طبع بفردانيته تجربة جماعية بحلول يوم 7 فبراير الجاري تكون قد مرت 27 سنة على رحيل الفنان العربي باطما، أحد أعمدة المجموعة الأسطورية «ناس الغيوان» التي ساهمت في تشكيل توجه قائم الذات في مسار الأغنية المغربية، ارتكز بالأساس على الإنصات للنبض العميق للمغاربة واستعادة أنغامهم وإيقاعاتهم وشخصيتهم الغنائية. في هذا الخاص تستعيد «الصباح» محطات من مسار هذا الفنان الاستثنائي الذي طبع بفرديته تجربة جماعية على أكثر من واجهة. إعداد: عزيز المجدوب ظل صوت العربي باطما ينساب معتقا ببحته المميزة كأنه قادم من عمق سحيق، في كل تسجيلات مجموعة "ناس الغيوان" وأغانيها التي شكلت عماد ريبرتوارها الغنائي. صوت لا يشبه إلا نفسه، لا يتخيل المرء كيف استطاع هذا الفتى القادم من سهول الشاوية ودرج بين صفيح كريان سنطرال بالحي المحمدي، أن يقتحم بهذا الصوت الخالي من كل مقومات التطريب ومعاييره التي كان متحكمة في الذوق السائد آنذاك، في مغرب نهاية الستينات، المشهد الغنائي. صوت العربي باطما كان متفردا نابعا من شخصية فنان تشبع بعشق التراث والشغف بكل ما يحيل على "حكمة الأجداد" وفنون قولهم، وأنماط غنائهم. حين غنى مجذوب قبيلة "أولاد بوزيري"، لم يكن يستعيد سوى الأصوات التي سكنت لا وعيه، وتحكمت في مزاجه الذكوري الخشن، الذي انطبع بالبيئة المصبوغة بروح بداوة الشاوية وعنف المجال الحضري بالحي المحمدي، لتقدم لنا صوتا مرجعيا حاول الكثيرون تقليده، لأنه ظل الأصل الذي لم يقلد أحدا. ورغم أن تجربة "ناس الغيوان" تحكمت فيها روح العمل الجماعي والمجموعة، إلا أن فردانية الأعضاء المؤسسين لها، ظلت حاضرة، كما أن اختلاف مرجعياتهم وأهوائهم وأمزجتهم شكل نقطة قوتهم من خلال الأرضية المشتركة التي تمكنت من توحيدهم، وتذويب فردانيتهم، بشكل وظيفي يجعل كل فرد منهم لبنة لا يمكن الاستغناء عنها في تجربة تكلمت بلسان الجماعة بذوات الأفراد. ووسط تجربة "ناس الغيوان" الجماعية، تصبح مسألة الاستفراد بمسار عنصر بمعزل عن الآخرين، مهمة لا تخلو من مجازفة، لكن مع ذلك فالبحث في المسار الفردي لكل عنصر من المجموعة من شأنه أن يكشف جوانب من سر تميزها من خلال عبقرية أفرادها، دون استثناء، بدءا من كل الأسماء التي دخلت "بحر الغيوان" من بوجميع وعلال يعلى وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري وعبد الرحمن باكو والعربي باطما ومحمود السعدي وصولا إلى الملتحقين بها في ما بعد مثل رضوان عاريف، بشكل مؤقت، وحميد باطما ورشيد باطما وعبد الكريم الشيفا.. عنف المجال وبداوته تدرج العربي باطما المزداد سنة 1948 بين مجال البادية والمدينة، إذ ترعرع بين منطقة أولاد بوزيري التابعة لقبيلة أولاد اسعيد بنواحي سطات، كما نشأ بين أحضان الحي الصفيحي "كريان سنطرال" قبل أن تنتقل أسرته إلى منزل إسمنتي أمام قاعة سينما السعادة بالحي المحمدي. تابع دراسته ولم يتمكن من إتمامها إذ انقطع عن متابعة تعليمه في مرحلة الثانوي، بسبب ظروف أسرته الصعبة وعدم انضباطه في الفصل الدراسي، ودخوله للسجن بسبب مشاركته في عدد من إضرابات ومظاهرات التلاميذ ، كما اشتغل في مهن عديدة منها حارس دراجات، لكن شغفه بالفن قاده نحو الانخراط مبكرا في العمل الجمعوي والتجارب المسرحية الهاوية، ليستكمل تكوينه بشكل عصامي. ونشط العربي باطما ضمن فرقة "الهلال الذهبي" وهناك من يسميها فرقة "الإنارة الذهبية" جسد معها دورا من مسرحية تسمى "ليلة عاشوراء" كما كان يكتب مسرحيات لهذه الفرقة التي قضى معها ثلاث سنوات، من أهمها "سيدنا الشيخ" التي حازت على جائزة آنذاك و"الخياط" و"الحراز" و"نفيسة" وغيرها قبل أن يلتقي مع بوجميع وعمر السيد في مسرح الطيب الصديقي. ولما سمع الطيب الصديقي الذي كان يهتم آنذاك بمسرح "البساط" بأن هناك بعض الشباب بالحي المحمدي يسيرون على نهج مسرح البساط، أي بين الغناء والتمثيل، أبدى رغبته الأكيدة ضمهم إلى فرقته. خلال تلك الفترة التحق باطما بتجربة الطيب الصديقي الذي حاول توظيف إمكانيات الصورة والرمز والحركة والتراث بشكل جعله رائدا على المستوى العربي عامة وأتاح الفرصة لعدة مواهب لتبين عن كفاءتها داخل مجال مسرحي واسع يستعمل الفرجة الكاملة، بل أثر بشكل وبآخر في توجه بعض ممثليه نحو الغناء الشعبي وكان من نتائج ذلك التقاء بوجميع وعمر السيد والعربي باطما ومعهم أيضا علال يعلى، الذي حضرا موسيقيا أكثر منه ممثلا، على أرضية فنية ساهمت في توجيههم نحو الاهتمام بالتراث، وكانت مسرحية "الحراز" أهم عمل مسرحي لهولاء مع الصديقي، وكل من استطاع استعادة شريط المسرحية المسجلة للتلفزيون المغربي سنة 1968 سيلاحظ بوادر الظاهرة عند هؤلاء الفتية الذين كانوا يتناوبون على غناء القصيدة و كانوا يضيفون في المسرحية مرددات شعبية ظاهرها ساخر وباطنها نقد اجتماعي قوي المفعول. وهناك بدا التجاوب واضحا بين بوجميع وباطما وعمر السيد من خلال المقطوعات التي يؤدونها أثناء المسرحيات ولما أقام الصديقي ما يسمى المقهى المسرحي "كافي تياتر" أصبح هؤلاء يغنون فيها أغاني من إبداعاتهم وإبداعات أناس آخرين، ويحضر فنانون، مسرحيون وغيرهم لمشاهدتهم . فإلى جانب مسرحية "الحراز" شارك هؤلاء في مسرحيات مثل "سيدي عبد الرحمان المجدوب" و"سيدي ياسين فالطريق" ثم أعمال أخرى. لحظة الغيوان شكل ظهور المجموعات الغنائية لحظة ميلادها ظاهرة حداثية موسيقية دون قطيعة مع الممارسة الفنية للتراث الشعبي المغربي، بل بنت جسرا تواصليا معه ونقّحته بروح العصر دون الانفصال عنه، وقصدت تغييرا ثوريا بالحضور والتأثير والفاعليّة في التّراث، دون التجرّد من المضامين الكبرى لهذا المكون من تراث القول الشعبي. واتسمت نصوص المجموعات الغنائية بجرعة نقدية واضحة، جعلت الاعتقاد يسود بأن لها خلفية سياسية، أو هكذا أريد لها، من قبل مثقفين وتيارات سياسية حاولت تبني مضمون أغاني تلك المجموعات واحتضنتها، بصرف النظر عما إذا كان أعضاء تلك المجموعات فعلا يرون الأمر من منظور سياسي أم هو تعبير فني محض. وقد انبثقت تجربة "ناس الغيوان" من رحم التجربة المسرحية للفنان الراحل الطيب الصديقي ، وتجارب مسرحية قبلها والتي كانت "هاوية"، مما ساهم في تشبع أعضاء مجموعة "ناس الغيوان" بفكرة الاشتغال على التراث، خاصة منه الملحون. هذا الورش الفني الذي فتحه الراحل الطيب الصديقي، ساهم في تشبع أفراد المجموعات الغنائية بفكرة استعادة الأشكال الفرجوية والغنائية التراثية. انصب مشروع الصديقي على المسرح، فيما ركز أفراد "ناس الغيوان" على الشق الغنائي. إذ داخل مسرح الراحل الطيب الصديقي ظهرت مجموعة من التجارب التي تضم مزجا بين الأداء التمثيلي المسرحي والغنائي عبر استثمار التراث، قبل أن تتطور التجربة لتعطي مجموعة ناس الغيوان في شكلها المعروف، وبعدها تجارب المجموعات الغنائية التي تناسلت من التجربة نفسها، واستلهمت المجموعات الغنائية النصوص التراثية من خلال مقاطع أو قصائد كاملة، يتم نقلها من سياقها الذي أنتجت فيه وإعطائها مضمونا اجتماعيا وسياسيا مرتبطا بالمرحلة الزمنية التي ظهرت فيها. سافر العربي باطما ضمن فرقة الطيب الصديقي، نهاية الستينات، لتقديم أعمال مسرحية لفائدة العمال المهاجرين، وظل بفرنسا أزيد من ستة أشهر، رفقة صديقه بوجميع، وهي المرحلة التي ساهمت في إثراء شخصيتيهما على المستوى الإنساني والفني. وبعد العودة ساهم العربي باطما وبوجميع وعمر السيد في ميلاد تجربة "ناس الغيوان" التي تأسست على مراحل وباسم مختلف هو "الدراويش الجدد" قبل أن تستقر على اسمها الذي عرفت به،. وهكذا ظهرت المجموعة إلى النور مطلع السبعينات، وشكلت آنذاك، لحظة فنية مميزة، استمدت قوتها من نبوغ أفرادها وأيضا من الأجواء الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، فكانت البداية بأغان من قبيل "الصينية" و"واش حنا هما حنا" و"الماضي فات" و"الحصادة" و"مزين مديحك" وغيرها. لم تمض سنوات قليلة حتى فجعت المجموعة برحيل مفاجئ لعنصر أساسي فيها هو بوجميع (أكتوبر 1974)، لكنها واصلت الطريق بأعضائها الآخرين منهم العربي باطما الذي تعاظم دوره داخل مجموعة المجموعة، وأصبح مزودها الأساسي بالنصوص الغنائية التي كتب أغلبها. واجهة فنية متعددة اتجه العربي باطما في الثمانينات إلى التأليف والتمثيل المسرحي والسينمائي، حيث أظهر مواهب متعددة في كتابة السيناريوهات والتمثيل. خلّف باطما عددا من الأعمال، منها ألبوم "حوض النعناع"، وسيرته الذاتية في جزأين "الرحيل" و"الألم" ثم ملحمة "لهمام حسام" في أربعة أجزاء ويعد هذا النص أطول نص زجلي في المغرب، يتضمن أزيد من 17 ألف بيت زجل. كما كتب عدة سيناريوهات منها سيناريو فيلم "جنب البير"، فضلا عن نصوص مسرحية، من قبيل "لهبال في الكشينة" و"هاجوج وماجوج" ومسرحية "العقل والسبورة" وغيرها.

العربي باطما… “مجذوب الغيوان”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

10 سنوات لقاتلة زوجها بسيدي بنور

بطمة بسجن "لوداية"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات