ثلاث سنوات على رحيل المطرب الذي كان الحسن الثاني يهديه بذله حلت يوم 26 نونبر الماضي الذكرى الثالثة لرحيل الفنان محمود الإدريسي الذي اختطفه الموت عن سن ناهزت الثانية والسبعين، بعد حضور فني متميز لصاحب "ساعة سعيدة" و"محال واش ينساك البال" لمدة جاوزت خمسة عقود، أثرى فيها الساحة الفنية المغربية بعشرات الروائع الغنائية التي أبدع فيها مطربا وملحنا. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب في نبرة صوته روح مغربية خالصة، لا تخطئها الأذن، تنساب بوداعة مفعمة بالحنين والانتماء، تتكشف في المواويل أو المقاطع الغنائية التي يشدو بها. حتى الموشحات والقصائد الدينية التي كانت بمثابة أعمال البدايات بالنسبة إلى محمود الإدريسي، كان يؤديها بطريقة مغربية صرفة. انضاف صوت محمود الإدريسي إلى جيل نهاية الستينات، ومطلع السبعينات، بعد أن قضى سنوات بكورال الجوق الوطني للإذاعة، قادما إليه من حي يعقوب المنصور بالرباط حيث ولد سنة 1948 وقضى طفولته ما بين دوار الكورة وحي القامرة. كانت أسرة محمود الإدريسي تتحدر من منطقة "المداكرة" ووالده كان جنديا شارك في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى انخراطه في صفوف حركة المقاومة، خاصة مع منظمة "اليد السوداء" التي كانت تربطه علاقة وطيدة ببعض أعضائها. كان الإدريسي يرافق والده لأداء صلاة الجمعة بمسجد "أهل فاس"، حيث كان الطفل محمود يستمتع بصوت المقرئ بنموسى وأسلوبه المغربي الخالص في تلاوة القرآن، وهو المسجد نفسه الذي كان يتردد عليه السلطان محمد الخامس. ولم يكن الطفل محمود يدري أن ولعه المبكر بالأصوات الجميلة، ليس سوى مقدمة لشخصية الفنان الكامنة فيه، والتي ستتبدى مظاهرها خلال انتقاله إلى الدراسة بإعدادية "البطانة" بسلا، حيث كان الإدريسي سباقا إلى المشاركة في الأنشطة الفنية المدرسية ومتميزا فيها. من المسرح إلى الغناء قرر الإدريسي الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى سنة 1964، والغريب في الأمر أن الفتى الذي كان مولعا بالطرب والغناء سيلتحق في البداية بقسم التمثيل المسرحي، حتى يتمكن من التغلب على الخجل والاضطراب اللذين كانا يعتريانه بمجرد ما يقف للغناء أمام الناس. وتتلمذ الإدريسي على يد كل من أحمد الطيب لعلج والمرحوم فريد بنمبارك، فضلا عن الراحل عبد الوهاب أكومي الذي كان يدرس الموشحات، وكان من زملائه في دراسة المسرح كل من نزهة الركراكي والمرحوم بنعيسى الفاسي ومحمد الجفان وعزيز الفاضلي. قضى محمود سنتين في هذا القسم، إلى أن أتيحت له الفرصة خلال إحدى حفلات نهاية السنة فأدى موشح "يا ليل طل" رفقة جوق "الخمسة والخمسين"، الذي كان يرأسه آنذاك الطاهر الزمراني، إضافة إلى قطع أخرى لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، فانتزع محمود الذي لم يكن عمره حينها يتجاوز السادسة عشرة، إعجاب الحاضرين بأدائه المتفرد. وكان من بين الحاضرين الملحن عبد الله عصامي الذي اقترح عليه الالتحاق بالإذاعة، وتوسط له لدى الموسيقار أحمد البيضاوي، فأجرى محمود الإدريسي اختبارا صوتيا اجتازه بنجاح. وهكذا وجد الإدريسي نفسه عضوا في المجموعة الصوتية التابعة للجوق الوطني، والتي كانت حينها تضم خيرة الأصوات التي سيصير لها شأن كبير في ما بعد، منها محمد الحياني والمعطي بنقاسم. وقضى محمود الإدريسي 11 سنة، بين 65 و76، ضمن المجموعة الصوتية، مكنته من الوقوف مرددا في بداياته خلف أشهر المطربين الذين استفاد منهم، كمحمد فويتح وعبد الوهاب الدكالي وغيرهما. وكان الموسيقار عبد النبي الجيراري أول من أتاح الفرصة لمحمود الإدريسي للظهور مطربا، إذ لحن له أولى أغنياته ويتعلق الأمر بقطعة وطنية بعنوان "يا ملكي يا بلادي" سنة 1969، إضافة إلى بعض القصائد التي قدمها له الفنان وعازف القانون صالح الشرقي. "باسم الفتاح" فاتحة البداية وبعدها بسنة قدم له عبد القادر الراشدي أول أغنية له بالدارجة المغربية بعنوان "نبدا باسم الفتاح" وهي من كلمات أحمد الطيب لعلج، وتوالى تعامل الإدريسي مع عدد من الملحنين، منهم على وجه الخصوص عبد القادر وهبي والملحن وعازف الناي حميد بنبراهيم الذي سيلازم الإدريسي في العديد من المحطات الفنية. كما ارتبط محمود الإدريسي لفترة قصيرة بالملحن الراحل عبد السلام عامر، قبل أن تسوء العلاقة بينهما، بعد أن اكتشف أن عامر كان يمرن به قطعه الغنائية الجديدة، قبل أن يسندها إلى أصوات أخرى، مثلما وقع الأمر مع قصيدة "راحلة" التي كان الإدريسي أول من سيغنيها وقد سجلها فعلا على أسطوانة خاصة. أما الأغنية التي كانت بمثابة مفتاح شهرته فهي رائعة "يا بلادي عيشي" التي لحنها له الموسيقار محمد بنعبد السلام. وأتيحت للإدريسي فرصة القيام بجولات فنية خارج المغرب خاصة بدول الشرق العربي، وتعامل هناك مع العديد من الأسماء منهم الراحل محمد الموجي الذي سيلحن لمحمود الإدريسي قطعتين غنائيتين، فضلا عن ملحنين آخرين من ليبيا والعراق والكويت. وخلال مرحلة الثمانينات تولى محمود الإدريسي تلحين أغانيه بنفسه، وبعد عدة محاولات خجولة، كانت الخطوة الكبرى من خلال أغنية "ساعة سعيدة" التي كتب كلماتها الزجال والشاعر الغنائي مصطفى بغداد وكتب لها نجاح كبير، إضافة إلى العديد من القطع الأخرى منها "اصبر يا قلبي" "بغا يفكرني ف اللي كان". ولم تقتصر ألحان الإدريسي على صوته فقط، بل تعامل مع أصوات أخرى منها صوت الفنانة لطيفة رأفت التي قدم لها قطعة "الحمد لله"، ونعيمة سميح التي لحن لها "شكون يعمر هاذ الدار" وهي من كلمات عبد القادر عصفرة، فضلا عن البشير عبدو من خلال قطعة "الدنيا بخير" ومحمد الغاوي الذي قدم له أغنية "اللي علينا احنا درناه" ونزهة الشعباوي، وآخر من تعامل معه كانت الفنانة فلة الجزائرية التي سجل رفقتها أغنية "فتحوا الأبواب" التي أثارت ضجة في الجارة الجزائر لمطالبتها بفتح الحدود. الأغنية التي أعادت الإدريسي إلى القصر أول مرة دخل فيها محمود الإدريسي رحاب القصر الملكي بالرباط كانت بداية السبعينات، عندما كان رفقة المجموعة الصوتية التابعة للجوق الوطني، وتمكن من أن يحظى بإعجاب الراحل الحسن الثاني، بفضل أدائه المتميز لبعض الموشحات. إلا أن فرحة الإدريسي بدخول القصر لم تكتمل، إذ حكى، في حديث سابق مع "الصباح"، أنه في إحدى اللحظات تقدم منه الحسن الثاني ليثني على أدائه، فنسي الإدريسي يده موضوعة في جيبه أثناء حديثه مع الملك، فما كان من الأخير إلا أن انتفض في وجهه قائلا "حيد إيدك من جيبك" ثم التفت ناحية أحمد البيضاوي فقال له "أنا كانهضر مع السيد وهو داير إيدو ف جيبو.. ما تبقاوش تجيبوا لي بحال هاذ الناس". فكان الأمر بمثابة صدمة للفتى محمود، الذي لم ينتبه إلى أنه ارتكب خطأ بروتوكوليا، خاصة أن النبأ سرى وسط زملائه الفنانين، الذين تلقوا المسألة بنوع من "التشفي"، ولم يهدئ من روعه سوى الملحن محمد بنعبد السلام الذي أخذه في سيارته وطمأنه بأنه سيعود ليدخل القصر من جديد في ظرف لا يتعدى شهرا وكان يتحدث بثقة بالغة. وفعلا خلال ذلك الشهر لحن له قطعة "يا بلادي عيشي" التي ألفها الزجال علي الحداني، ولم تمض على إذاعتها سوى بضعة أيام، وبينما كان رفقة بنعبد السلام في جولة فنية بوجدة، تلقى مكالمة من القصر وطلب منه الالتحاق به بسرعة في تمام الساعة السادسة مساء. وفي الطريق بين وجدة والرباط تعطلت السيارة التي كانت تقل الإدريسي ويسوقها بنعبد السلام قرب فاس، فازداد الوضع حرجا، إذ لم يتم إصلاحها إلا بعد لأي، ولم يصلا إلى القصر إلا في حدود الحادية عشرة ليلا، وبينما هما يصعدان الأدراج سمعا صوت الحسن الثاني وهو يقول "فينا هو مال هاذ الناس ديال وجدة، ما لهم تعطلوا" وما أن رأى محمود الإدريسي حتى انفرجت أساريره وهو يقول له "هاذيك الأغنية عندك راها بغات تهبلني" (يقصد "يا بلادي عيشي"). وأمر الحسن الثاني الفرقة الموسيقية بأن تستعد لأداء القطعة معه، فاكتشف أن أفرادها لم يحفظوا اللحن بعد، فقال لهم "كيفاش جاي من وجدة وانتوما كاتقولوا ما حافظينش" فأنقذ محمد بنعبد السلام الموقف بأن أخرج شريط الأغنية من جيبه، فغناها الإدريسي أمام الملك الراحل على طريقة "البلاي باك". وكان من مظاهر إعجاب الحسن الثاني بالإدريسي، أنه كان يهديه بذله الخاصة، التي ظل محمود يحتفظ بها، وفي أواخر حياته كان الحسن الثاني يمزح مع مطربه المفضل قائلا له "ما بقا ما نعطيك، أنا كانضعاف وانت كاتغلاظ".