38 سنة على رحيل الملحن الذي ساهم في ترسيخ النموذج المغربي غنائيا حلت في مطلع نونبر الجاري الذكرى 38 لرحيل الفنان والموسيقار عبد الرحيم السقاط، الذي ارتبط اسمه بالعديد من الروائع التي رصعها بأنامله ألحانا تغنت بها الأصوات عبر الأجيال منها "علاش ياغزالي"، "صدقت كلامهم"، "قطار الحياة"، "كاس البلار"، "ما بقيتي عندي فالبال"، "وشاية" وغيرها. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جانبا من مسار هذا الملحن الذي ساهم في تشكيل ملامح الأغنية المغربية العصرية لما بعد الاستقلال. إعداد: عزيز المجدوب ظلت الروائع التي أبدعها الراحل عبد الرحيم السقاط منطبعة في وجدان المغاربة، وغيرهم، وشكلت جزءا من "لاشعورهم" الموسيقي، واختلفت الأصوات المغربية، التي أدتها باقتدار، إلا أن واضع ألحانها شخص توحدت لديه المواصفات التي جعلت منه ملحنا من طينة الكبار الذين بصموا المشهد الغنائي المغربي وساهموا في إثراء الخزانة السمعية بروائع نقشت اسمها بالذهب في سجل التاريخ. تراوحت الصفات التي ظلت لصيقة بهذا الفنان بين الملحن المثقف" أو"المثقف الملحن" باعتباره من بين الملحنين القلائل والأوائل الذين زاوجوا بين الموهبة والتكوين الأكاديمي الرصين في مجال الموسيقى، في الوقت الذي كان فيه الملحنون المغاربة لا يعتمدون سوى على "السمع" ويجيدون بالكاد قراءة النوتة الموسيقية. تكوين بفاس والقاهرة عبد الرحيم السقاط الذي ولد بفاس سنة 1933 حصل على شهادة البكالوريا خلال مستهل الخمسينات بالعاصمة العلمية، وبإيعاز من صهره وزوج أخته المناضلة الراحلة ثريا السقاط، الأستاذ محمد الوديع الأسفي، هاجر إلى القاهرة، وحط الرحال بأرض الكنانة بهدف استكمال تكوينه الدراسي فالتحق بجامعة فؤاد الأول، ثم بنادي "الموسيقى الشرقي" الذي تخرج منه رموز الموسيقى في مصر والعالم العربي، أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي الذي اشتغل بالتدريس فيه، وهناك صقل السقاط مواهبه بالدرس والتحصيل العلمي. لم يكن عبد الرحيم السقاط الفنان المغربي الوحيد الذي هاجر إلى الشرق، في بداية الخمسينات، بل سبقه إلى هناك المطرب محمد المزكلدي والشاعر الغنائي الراحل حسن المفتي الذي كان يدرس السينما والإخراج هناك، المهم أن السقاط بعد أن قضى بمصر مدة قصيرة، عاد إلى المغرب، وتزامن ذلك مع التباشير الأولى لفجر الاستقلال، والتي تميزت بتزايد الحماس الوطني من أجل بناء المغرب على كافة الأصعدة. وقبيل تلك الفترة تأسس الجوق العصري الذي كان يُعرف بجوق "راديو ماروك"، في عهد الحماية الفرنسية، ورغم أن الموسيقار عبد الرحيم السقاط عُرفت عنه إجادته للعزف على آلة العود حتى إنه كان يعد من أمهر العازفين على هذه الآلة على صعيد العالم العربي بشهادة الكثيرين، إلا أنه التحق في البداية بهذا الجوق عازفا على آلة الكمان، إلى جانب أسماء كثيرة ابتدأت مسارها الفني بالطريقة نفسها، أمثال إسماعيل أحمد، والمعطي بنقاسم وعبد القادر الراشدي والمعطي البيضاوي وغيرهم. وبعد الاستقلال وتحديدا سنة 1959، أعيد تأسيس جوق "راديو ماروك" فأصبح يحمل اسم "الجوق الوطني للإذاعة" بالرباط، على عهد مديرها السابق الدكتور المهدي المنجرة، وأسندت رئاسة هذا الجوق إلى الموسيقار أحمد البيضاوي الذي انتقى أعضاءه من خيرة العازفين الذين كانت تزخر بهم الإذاعات الجهوية، وأيضا العازفين الذين كانوا يشكلون النواة الأولى لجوق "راديو ماروك"، علما أن السقاط كان عازفا على آلة العود بالجوق نفسه قبل أن يتفرغ للتلحين. ملامح الاستقلال الفني خلال نهاية الخمسينات بدأت مواهب السقاط في مجال التلحين تتبلور، من خلال مجموعة من الأعمال سواء تلك التي أداها بصوته، مثل أغنية "والله ما نلومك" أو "يافرحنا يا سعدنا" لمناسبة عيد الاستقلال، وغيرها من الأعمال التي اندثر جلها وتلك إحدى مهازل التوثيق ببلادنا. أما الأغنية التي شكلت الانطلاقة الفعلية للسقاط ملحنا ومبدعا، فهي أغنية "علاش يا غزالي" التي أداها المطرب الراحل المعطي بنقاسم، وهي من كلمات حمادي التونسي، وتجسد فيها توجه السقاط الفني القائم على تقديم أعمال غنائية مستقلة عن القوالب الشرقية وتتضمن طابعا مغربيا صرفا، رغم أن السقاط كان متشبعا بالطرب الشرقي، إلا أنه فضل تقديم أعمال تنهل من الإيقاعات والأنغام المغربية الأصيلة. وتوالت بعد ذلك الروائع التي لحنها السقاط، وتعددت الأصوات التي أدتها، فإلى جانب المعطي بنقاسم الذي أدى "علاش يا غزالي" سالفة الذكر، فقد قدم أيضا أغنيات أخرى من ألحان السقاط مثل "أيام الربيع" و"الكاويني" و"عيبوا علي" ثم قصيدة "مكابرة" وغيرها. فيض ألحان خلال مستهل الستينات تألقت العديد من الأصوات الغنائية بفضل ألحان السقاط مثل الفنان عبد الوهاب الدكالي من خلال قطعتي "وشاية" و"بلغوه سلامي"، كما تعامل السقاط مع أبرز الأصوات الغنائية التي تألقت في تلك الفترة، أو ساهم في تألقها، أمثال محمد الحياني الذي لحن أغنيتي "مشمومي" و"عبد عينيك"، وإسماعيل أحمد في قصيدة "حنين"، وعبد المنعم الجامعي، ونعيمة سميح من خلال رائعة "شفت الخاتم"، كما قدم للمطربة التونسية فتحية خيري قصيدة "اعتذار" وتعامل مع كل من محمد المزكلدي وحميد شكري. أما روائعه مع عبد الهادي بلخياط فكانت من خلال أغان ساهمت بشكل كبير في تألق هذا المطرب مثل "الهاتف" و"خبر" و"صدقت كلامهم" ثم "قطار الحياة" إحدى أنجح أغنياته. وكان السقاط من أوائل الملحنين الذين تعاملوا مع قصائد الشاعر السوري نزار قباني، كما لحن قصائد الشاعر المصري أحمد شوقي ومن أشهرها قصيدة "على قدر الهوى" التي غناها الراحل المعطي بنقاسم. خلال منتصف السبعينات عاد السقاط إلى مسقط رأسه بفاس وظل مستقرا بها إلى أن وافته المنية يوم فاتح نونبر 1985، إثر نوبة قلبية وعمره لا يتجاوز الرابعة والخمسين، ليترك خلفه رصيدا رائعا من الأغاني التي خلدت اسمه ضمن "الكبار في تاريخ الأغنية المغربية". "أرض وشباب" مع حكيم يذكر الفنان والإذاعي أنور حكيم، أن الراحل عبد الرحيم السقاط عاش خلال مراحل حياته ظروفا صعبة، رغم النجاحات التي حققتها ألحانه، ففي أوائل الستينات سافر السقاط إلى الاتحاد السوفياتي ضمن وفد يمثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي) وقدم هناك العديد من ألحانه الناجحة حينذاك، ولدى عودته إلى المغرب، فوجئ بقرار طرده من الإذاعة، فاضطر إلى العمل بإحدى المؤسسات البنكية بالبيضاء. وخلال السنوات العشر الأخيرة من حياته اضطر السقاط، يقول حكيم، إلى العودة إلى مدينة فاس بحكم إصابة ابنه بداء الربو، كما أن ظروف السقاط الصحية تدهورت خلال تلك الفترة إلى أن توفي يوم 1 نونبر 1985. وتعامل أنور حكيم مع السقاط من خلال أغنية وطنية بعنوان "أرض وشباب" من كلمات فتح الله لمغاري، سجلت بإذاعة عين الشق بداية السبعينات، وكان له معه تعامل فني آخر لم يكتمل من خلال قصيدة "لا تحبيني" للشاعر نزار قباني غناها في ما بعد عبد المنعم الجامعي. "ما بقيتي عندي فالبال" من بين الفنانين الذين ارتبطوا بالراحل عبد الرحيم السقاط، نجد المطرب والملحن الحبيب الإدريسي، الذي غيبه الموت قبل أسابيع، وكان السقاط وراء الأغاني التي شكلت الانطلاقة الفعلية لهذا الفنان، ولعل أشهرها القطعة الخالدة "ما بقيتي عندي فالبال" وهي من كلمات فتح الله لمغاري، والتي غناها الإدريسي أواسط الستينات. ورغم الشهرة التي نالتها هذه الأغنية إلا أن الإدريسي ما فتئ يؤكد أن السقاط لحن له أغنيات لا تقل روعة عن "ما بقيتي عندي فالبال" سبقتها وشكلت بداية التعامل الفني بينهما، ويتعلق الأمر بأغنية "غير أو كان" وهي من كلمات حمادي التونسي، ثم أغنية "شنو اللي كان" التي نظم كلماتها وحيد العمارتي، وغيرها من القطع التي أتت في ما بعد مثل "يا المالكة قلبي" و"إيلا سد الله باب يفتح أبواب".... وحكى الحبيب الإدريسي، في حديث سابق مع "الصباح"، أن الفضل في تعرفه على عبد الرحيم السقاط، يعود إلى تاجر مشهور بالدار البيضاء يدعى "الحاج التاقي بن عزوز"، الذي كانت له علاقات متميزة مع أشهر فناني تلك المرحلة. ويضيف الإدريسي أن التعارف حصل خلال سهرة خاصة بفيلا الراحل عبد الواحد الصميلي، كان حينها الإدريسي مازال مطربا ناشئا، وغنى ليلتها أغان لعبد الحليم وأغنية "عذبتي قلبي" للمعطي بنقاسم وهي من ألحان السقاط، عندها أدرك السقاط بحسه الفني أنه أمام موهبة غنائية فريدة فقرر التعامل في ما بعد مع الإدريسي وشكل ذلك اللقاء فرصة التعاون الفني بينهما.