كانوا أكثر صلابة وصبرا لحظة وقوع الفاجعة ثم استسلموا لآلام تسكنهم بعد أن دبت الحياة في قرى منكوبة بعد مرور قرابة عشرة أيام، على زلزال الحوز، يسترجع العديد من الرجال لحظات قاسية مرت أمامهم كلمح البرق، فقدوا خلالها ذويهم. في لحظة السقوط والانهيار والبكاء والصراخ والعويل، كان العديد منهم واقفا صامدا متحديا كل الصعاب مساهما في البحث تحت الأنقاض عن أحياء لإنقاذهم، أو جثث لانتشالها، بكل شجاعة وصبر. لكن بعد مرور بضعة أيام، وما أن بدأت الحياة تدب رويدا بين الأهالي، حتى استرجع الكثير منهم لحظات الفراق والموت والفقد، فكان أن انسكبت أنهار من الدموع، لترسم أخاديد من الوجع والألم. إعداد: محمد العوال (موفد الصباح إلى إقليم الحوز) الساعة تشير إلى الثانية ظهرا من السبت الماضي، عندما كنا في طريقنا إلى وركان، بعدما عبرنا أسني، ونحن في طريقنا كان السؤال الذي يخيم علينا، ونود أن نجد له جوابا، هو هل عادت الحياة تدريجيا إلى الأهالي في جبال الأطلس؟ وكانت إجوكاك وجهتنا. علي... ألم الفراق على بعد ثلاثة كيلومترات من وركان، كان الصديق "علي" ابن المنطقة ويشتغل بأحد المطاعم بآسفي في انتظارنا، بعد أن ضربنا معه موعدا هناك، ركب معنا السيارة وواصلنا المسير. كان "علي" كله حيوية ونشاط، تحدثنا عن القبيلة وأهلها وعن الحياة التي بدأت تدب في أوصالها "الحمد لله الأمور ستكون بخير، الناس هنا يؤمنون بقضاء الله وقدره، هذا زلزال يمكن أن يفني البشر والحجر"، يقول علي. فجأة نسمع نحيبا قادما من المقعد الخلفي.. إنه "علي"، يحاول أن يخفي دموعه، فنحاول مواساته، وهو الذي فقد أقاربه. حتى الأمس القريب، كان "علي" كسلطان يعتلي عرش عقله، ويتحكم في مشاعره في عز الفقد والألم، واليوم ينتحب سرا.. "الأمر عاد جدا، هي لحظات تضعف فيها، عندما تسترجع ذكريات أقارب"، يقول علي، وهو يشير إلى أحد الجبال الذي احتضن جزءا من طفولته بين جبال الأطلس، التي يزينها غطاء نباتي، وكأنه يحاول أن يغير طبيعة النقاش، لكن سرعان ما يسقط علي في نهر من البكاء كسقوط صخرة من جبال الأطلس في قارعة الطريق.. استسلم ابن 26 من العمر للبكاء، وكان أن توقفت بنا السيارة في ركن قصي من طريق ضيق. "أختي وزوجها وابنتهما قضوا نحبهما، في حين لم يبق على قيد الحياة سوى ابنهما رضى، فأنا اليوم خاله ووالده... إنه ابني اليوم".. بهذه العبارات لخص علي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وحجم انتظارات طفل فقد أبويه، ولا حاضن له سوى خاله، الذي يكابد بين مطاعم آسفي. فعلي الذي التقيناه في اليوم الثالث للزلزال، كان أكثر قوة وصلابة، استسلم لدموعه اليوم، وكأنا به، يعيش في ضيق، ويخفي جراحه وآلامه، فالرجل لم ينعم بلذة النوم، لأيام، وكان تفكيره مشتتا بين ذكريات الطفولة، وحسرة فقدان الأقارب، وجسامة مسؤولية تربية ابن أخته. ينزل علي من السيارة، وينط بين الصخور، ليصل إلى أعلى الجبل، وقد طلبنا منا أن نتركه للحظات، لاستنشاق هواء الجبل عله يخفف عنه وطأة ألم يرفض أن يغادر صدره. كنا نرقب علي واقفا شامخا، بين صخور الجبل، قبل أن ينحني على ركبتيه، وقد وضع وجهه بين راحتيه، ثم ما لبث أن وضع رأسه بين ركبتيه، مستديرا بظهره إلينا. كان المنظر محزنا للغاية، واستشعرنا أن دموع الرجال، لا يوازيها إلا همٌ بحجم جبال الأطلس. نزل علي من بين صخور الجبل، والدموع تتناثر على طول خديه متراقصة دمعة تلو الأخرى، لترسم مساحة من الحزن، لا يخفيها شاربه. غسل وجهه، بعدما أومأ إلينا لمده بقارورة ماء، وكأنا به يتوضأ من الحزن، وركب السيارة، وواصلنا المسير ببطء نسمع لحكايات علي عن طفولة قاسية بجزء من المغرب العميق، حيث قساوة الطبيعة والحياة، لا توازيها سوى قسوة الإهمال من قبل المسؤولين لرقعة من هذا الوطن المثخن بالجراح. تحولت رحلة البحث عن فضاء من الأمل، وعودة الحياة، إلى دموع مشتعلة بلهيب الألم وحرقة تكوي بنارها، دواخل رجال شداد فقدوا عزيزا أو قريبا.. إنها دموع الرجال. نتوقف بدوار تاسا، والتقينا بصديق علي، الذي كان يتحدث عن أمله في عودة الحياة إلى المنطقة، لكن الألم الذي كان يعتصر علي، والحزن الذي يخيم عليه، جعلنا نعود أدراجنا، بعدما أوصلنا علي إلى نقطة اللقاء، "نلتقي هنا، أنا لن أترك رضى هنا، ولن أغادر أرضي نحو أي مدينة أخرى، هنا أرض الأجداد، سنعانق تربتنا ونحرث أرضا، ونعيش بكفاف بين الصخور والجبال"، يقول علي. تعانقنا وأذرفنا دموع الفراق، وواصلنا المسير نحو مراكش، في حين وقف علي على جانب الطريق يلوح لنا بيده، إلى أن ابتعدت السيارة. بدت مساحة الحزن تتسع، ودموع الرجال أمامنا تتراقص، فبالأمس التقينا الحسين بأزكور كان حزينا وقويا في الآن ذاته، وهو يتحدث عن فقدان طفليه تحت الأنقاض، بدا كصخرة ثابتة لا تنال منها عوامل التعرية، شأنه في ذلك شأن الكثير من الرجال ممن أخفوا حزنهم في أعماق قلوبهم، وهبوا في عز الحزن لمساندة آخرين. لكن الكثير منهم اليوم بعد مرور بضعة أيام، استسلموا للدموع، بعد أن أعياهم تعب البحث تحت الأنقاض، أو مساعدة الآخرين.. "أنقذ لي أمي..." محمد رجل في الخمسينات من عمره، كانت حركة الأرض من تحته كافية لسقوط منزل، تمكن من الفرار رفقة ابنه الذي التحق حديثا بالقوات المساعدة، لكن سرعان ما عاد رفقة ابنه، واستخرج زوجته من تحت الأنقاض، وسحبها إلى خارج البناية، قبل أن يعود محاولا استخراج والدته التي كانت بالداخل، لكن حجم الركام الذي سقط فوقها جعله ينهار تماما، وخاطب ابنه بالقول "أنقذت والدتك فأنقذ لي والدتي أرجوك، أقبل يديك بني..". كانت هذه العبارات هي نفسها التي رددها هذا الرجل بعد أيام قليلة، أمام سمير كودار، رئيس جهة مراكش آسفي، الذي كان يتفقد رفقة مسؤولين المناطق المتضررة من الزلزال ولم يتمالك معها نفسه، وانهار بالبكاء.. يقول سمير كودار، "عندما يبكي رجال الأطلس، فاعلم أن حجم الألم فاق الحدود، ورسم تلالا من الحزن بداخلهم". فقدان ابني عذبني عبد السلام، رجل في الأربعينات من عمره يتحدر من أنكال بدائرة أمزميز، كان أكثر الناس حيوية ونشاطا في عز الفاجعة، يساعد هذا ويعين ذاك، رجل لا يكل ولا يمل من مساعدة الآخرين. حريص أكثر الحرص على راحة زوجته التي فقدت ابنها البكر، وكان يردد دوما في حضرتها بلكنة أمازيغية "ذاك أمانة من الله، اختار أن يسحب أمانته، ولازال بين يديك طفل عليك رعايته، وعليّ أن أظل بجانبكما"، كما يترجم ذلك مرافقنا محمد غرمي، أحد أبناء المنطقة الذي يشتغل بالقطاع السياحي بمراكش. لكن خلال اليومين الأخيرين، بدا عبد السلام على غير عادته، وأصبح يختار الانزواء بعيدا، بالكاد يتحدث إلى من يحدثه. نجلس بالقرب من عبد السلام ونستخرج قارورة ماء نسلمها إليه، فيتمعنها جيدا، ويرحب بنا بابتسامة تبدو مصطنعة. ينهض ليغير من وضعية جلوسه فتسقط صورة لطفل في ريعان طفولته، "إنه ابني اللهم ارحمه". يحاول عبد السلام أن يحدثنا عن قوافل التضامن وتوفر الأكل، ومخيمات القوات المسلحة الملكية، وما قامت من أجل السكان، لكن نستفسره عن سبب "هروبه" إلى هذه الأرض الفلاحية بعيدا عن زوجته وعن سكان المخيم، فيجيب "أرتاح قليلا هنا"، لكن الدموع تغالبه، ويحاول عبثا إخفاء الحزن الذي بدا يتدفق من عينيه، قبل أن يدير وجهه، بعد أن وقف واختار السير. نحاول أن نلحق به، لكن مرافقنا محمد، يطلب منا الانتظار. توقف الرجل، وبعد حديث دار بينه وبين محمد عادا معا، حاولنا أن نواسيه، ونقدم له صادق عبارات العزاء. عاد عبد السلام للجلوس مرة أخرى، واختار أخيرا البوح "عندما كنت أبحث بين الأنقاض عن الناس، لم يكن الألم يسكنني، كنت أعبر من هذا الدوار إلى ذاك، وأنقذت ثلاثة أشخاص، أخرجتهم أحياء من تحت التراب، وحفرت قبور عدة أشخاص منهم قبر ابني، حاولت إنقاذه وسحبه إلى الخارج لكن حائط المطبخ سقط فوقه وسحبه مني، خرجت خاوي الوفاض أواسي نفسي بمساعدة الآخرين.. كان ذلك مؤنسي في نسيان ولو للحظات ألمي، وألم فقدان ابني". لم يتبق لعبد السلام من الذكرى سوى صور صغيرة لابنه، الذي كان يستعد للالتحاق بالثانوية، لكن قدر الله خطفه منه. استسلمنا للبكاء، وانهارت دموعنا، التي لم نكن قادرين أن نخفيها بين ثنايا هذا الألم الذي يسكن رجالا، كانوا بالأمس أكثر صلابة وقوة، لكنهم اليوم، وبعدما اختلوا بأنفسهم، أدركوا حجم وفداحة الفراق.. فراق الأهل والأقارب. بعض آثار الدمار (أرشيف)