تارودانت… قصص من الدمار

أستاذة وأسرتها ضمن 86 شهيدا بتيركنيت وسكان دوار تحت الأنقاض لليوم الخامس تيركنيت، التابع لجماعة تيزي نتاست بتارودانت الشمالية، تجمع سكاني هلك منه 86 فردا بين نساء وأطفال ورجال، آخر جثة مازال البحث عنها داخل أكوام منزل من ثلاثة طوابق، انشقت الأرض فابتلعته، وأصبح بساطا مستويا مع السطح، بينما ظلت جثة امرأة رهينة الحفر والبحث من قبل رجال الوقاية المدنية الذين حلوا بالدوار لأول مرة، أول أمس (الاثنين)، حسب شهادات الأهالي. أما دوار أغبار، التابع للجماعة نفسها فإلى حدود مساء أول أمس (الاثنين) مازالت السلطات تشق الطريق للوصول إليه، وهو من الدواوير المنكوبة التي هلك جل سكانها. وحدهما، عزيمة الأهالي، وإيمانهم بالقدر، ما ترجما الصبر الذي أبان عنه المنكوبون، أما الآثار فوخيمة ومتعددة، بين فقدان أحبة ونفوق بهائم وانهيار مآو كانت إلى الأمس القريب مفخرة الاطمئنان والسكينة والهدوء بأعالي جبال الأطلس. إنجاز: المصطفى صفر- تصوير: عبد اللطيف مفيق (موفدا الصباح إلى تارودانت) الوصول إلى دوار تيركنيت أنزال، ليس سهلا في الأيام العادية، وأضحى أكثر صعوبة بعد الزلزال. فالمنعرجات المؤدية إليه من ملتقى الطريق الوطنية رقم 7 باتجاه طريق تيزي نتاست المؤدية إلى مراكش، تحولت إلى ما يشبه الحواجز الحجرية. صخور سقطت من أعلى حافة الجبل لتضيق الطريق الضيقة أصلا، وهي الصخور نفسها التي منعت وصول الإمدادات والتدخلات في اليوم الأول من حدوث الزلزال. تيركنيت... مأساة جماعية انتظر سكان الدواوير المنتشرة على الطريق نفسها منذ وقوع الفاجعة ليلة الجمعة الماضي، دون جدوى، ليشمروا على سواعدهم، باستعمال أدوات بسيطة كي يفكوا عنهم عزلة وصول الجرافات والوقاية المدنية والدرك الملكي وغيرهم من عناصر التدخل، ولم تحظ دواوير ومن ضمنها تيركنيت، بحضور هذه الأجهزة إلا أول أمس (الاثنين)، بعد أن اعتمد السكان على أنفسهم ووسائلهم البدائية وتعاون أهالي الدواوير المجاورة، في انتشال أزيد من ثمانين فردا، في اليومين المواليين للزلزال، لتظهر عناصر الوقاية ومعها مختلف المتدخلين، في وقت أصبح فيه استعمال القناع الطبي، ضروريا بسبب الروائح المنبعثة من وسك الركام. تيركنيت المنكوب، أحصى قتلى الزلزال، ودفنهم في قبر جماعية، وبكى أهله في البداية فقدان من مات شهيدا، قبل أن يبكوا البطء والإهمال. المصاب جلل والمنطقة تضم دواوير متباعدة بعضها يبعد بأزيد من أربعة كيلومترات عن الآخر، ومنازل تيركنيت مشتتة عكس الدواوير الأخرى. والزلزال خلف يتامى وأرامل، كما ترك في بعض الأسر أثرا كبيرا، بل حتى الدواب والمواشي، نفقت جراء الانهيار الكبير. أستاذة لم تفرح بتلاميذها ضمن الضحايا أستاذة، افتتحت للتو سنتها الدراسية الثانية بالدوار الذي كانت ترى فيه كل شيء جميلا، الطبيعة والموارد الفلاحية سيما "الأركان" والخروب والزيتون، كما آنست فيه طبيعة الخلق، فالناس بسطاء مبتسمون طيلة السنة، رغم ما يعانونه في سبيل ضمان عيش كريم. ارتأت الأستاذة أن تأتي هذه السنة لافتتاح الموسم الدراسي، رفقة والدتها وشقيقتيها، فهي تكتري غرفة بمنزل، مالكه يعتبرها ابنته، وزوجته تعاملها كذلك. وصلت رفقة أسرتها إلى المنزل الذي يؤويها طيلة السنة الدراسية، وهي فرحة بضيوفها، أي أمها وشقيقتيها، وما زاد من فرحتها أنها جلبتهم للاستمتاع بالطبيعة وحضور موسم جني "الأركان"، تلك الشجرة التي تعد مفخرة للمغاربة، لأنها لا تنبت إلا في تربتهم الطيبة. في تمام الساعة الحادية عشرة ليلا وبضع دقائق، ضربت الهزة، وأنهت حياة الأستاذة وأمها وشقيقتيها، بل حتى سيارتهن المركونة في مرآب المدرسة، سقط عليها السقف الإسمنتي، ليخلط مقدمتها بركام الانهيار. ماتت الأستاذة وماتت أمها وشقيقتاها، وكتب لهن أن يدفن في الدوار نفسه، مع جثث التلاميذ والآباء، في مشهد مريب أفجع السكان، وحول مالك المنزل الذي كانت تكتري منه غرفة، إلى مرشد، يجلس قبالة المدرسة، ليتحدث عن مناقبها ويكشف سلوكاتها الطيبة ويروي قصة هلاكها وأهلها. ماتت الأستاذة وتركت القسم منهارا، والمقاعد فارغة، بل حتى الأحياء من تلاميذتها ممن أفلتوا من الموت في الزلزال، لن يدخلوا القسم من جديد بعد أن علقت الدراسة، وهدمت جدران المدرسة. أسر فقدت أفرادها مآسي زلزال ليل الجمعة، متعددة، وحسب روايات أبناء دوار تيركنيت، فإن قصصا محزنة خلفها الدمار، أسر لم يبق منها إلا جدة وصبي يبلغ من العمر أربع سنوات، تمكن الأهالي من انتشالهما بعد 36 ساعة من الانهيار، وبينما كان الصبي في صحته الكاملة، فإن الجدة تعرضت لسقوط جدار على يدها ما دفع إلى نقلها للمستشفى قصد العلاج. ويرجح أن تبتر يدها بسبب المدة الطويلة التي ظلت فيها تحت ضغط قطعة خرسانة السقف الثقيلة. وهي الأسرة نفسها التي هلك جل أفرادها، ومازال البحث بين الأنقاض عن والدة الطفل، بينما تمكن رجال الوقاية المدنية من انتشال والده وشقيقه، أول أمس (الاثنين)، وكم كان المنظر حزينا ومؤلما عندما عرت معاول رجال الوقاية على الجثتين، إذ وجد الأب وهو حاضن لابنه مانعا سقوط الجدران عليه. قصة أخرى لشاب لا يتعدى عمره 17 سنة، إلا أنه من خلال حديثه، يبدو وكأنه مسن، خبر الحياة وأدرك أن الموت تأتي صدفة، سواء بزلزال أو حادث فجائي، أو حتى بسكتة قلبية، فقد ستة من أفراد أسرته، وجدته الهزة الأرضية مستيقظا، لم ينم بعد وعند شعوره بالخطر قفز ليصاب في جانبه الأيمن. وبعد توقف الزلزال، الذي لم يدم أكثر من ثلاثين ثانية، حاول تفقد أفراد أسرته، وأفلح في انتشال فردين في تلك الليلة الحالكة التي انقطع فيها الكهرباء والماء، ورغم ذلك فإن غياب التعجيل بوفود سيارات الإسعاف، جعله يتابع احتضارهما إلى أن ماتا. قصص كثيرة متشابهة، نظير تلك التي رواها مسن يبلغ من العمر 76 سنة، إذ أفاد أن الهزة أدركته وهو مستيقظ، وتفقد زوجته وابنته بعد توقفها ليجدهما تحت الأحجار والتراب، ليشرع في المناداة عليهما، فسمع صراخهما تحت الأنقاض. كان الظلام دامسا، ولم يجد أي أداة تساعده في رفع أكوام الحجارة والأتربة التي سقطت عليهما فاستعمل يديه، وظل ينتشل الابنة إلى أن أفلح في إخراجها، لتساعده في انتشال الزوجة. ماتوا بعد انتشالهم في الساعات الأولى التي أعقبت الهزة، تمكن أبناء الدواوير، ممن نجوا من الهلاك، من انتشال عدد من أفراد الأسر، معتمدين على مصابيح يدوية أو مصابيح هواتفهم المحمولة، بعد أن انقطع التيار الكهربائي بسبب سقوط الأعمدة التي توصل الكهرباء بالمنازل، واستمروا في إخراج المردومين من تحت الأنقاض، إلا أن عددا منهم كانت إصاباتهم خطيرة أو جروحهم غائرة، ما أدى إلى موتهم إثر ذلك، بعد ساعات من الانتظار، فالطريق مقطوعة وسيارات الإسعاف لم تصل، بل حتى شبكة الهاتف تعطلت. لم تصل أي إمدادات في اليوم الموالي، وآزر أبناء الدواوير بعضهم، في البحث عن ناجين بين الأنقاض، وتمكنوا من العثور على نساء وأطفال وشيوخ، وهم ما يزالون أحياء، ليحملوهم على محمل الموتى، إلى خارج الدوار، وصولا إلى الطريق المعبدة، حيث كانت سيارات الإسعاف المتوافدة من الجماعات القروية المجاورة، التي انطلقت في التوجه نحو تارودانت قصد إيصال المصابين إلى المستشفى. ضحايا بدون مأوى تتشابه المأساة بجل الدواوير المنتمية إلى جماعة تيزي نتاست، كما تتشابه روايات إنقاذ المصابين وموت المستشهدين، بل امتد التشابه إلى بقاء العديدين تحت الأنقاض لثلاثة أيام، ومع حلول عناصر الوقاية المدنية أول أمس (الاثنين)، استمر انتشال الهالكين من تحت الأكوام الكبيرة، ومازال دوار بكامله، بدون تدخل، إذ لم يتم فسح الطريق وإخلائها من الصخور الكبيرة التي أعاقت المرور إليها إلا أول أمس (الاثنين)، لتنطلق عملية الحفر لإخراج جثث الضحايا صباح أمس (الثلاثاء)، وسط ظروف صعبة وروائح التعفن، الذي أصاب الجثث. أما الأحياء، فقد نظموا أنفسهم في مجموعات، بعضها تكلف بالإمدادات الغذائية والبحث عن المساعدات التي يجلبها المواطنون المتوافدون من كل المدن، بينما المجموعات الأخرى قسمت على فئتين، رجال، شبابهم ومسنوهم يقدمون المساعدة لبعضهم، ونساء يمضين يومهن تائهات، تحت أشجار الأركان والزيتون، ينتظرن الذي يأتي أو لا يأتي، فحتى الخيام لم تصل بعد، إذ إلى حدود أول أمس (الاثنين)، ورغم مرور ثلاثة أيام كاملة، قضوا أربع ليال في العراء ينصبون فقط أقمشة ويشدونها إلى الأشجار لتغطيهم. ووسط حالة الصدمة والهلع، يتسلل غرباء إلى المنطقة ليس هدفهم تقديم الدعم أو المساعدات، بل يتحينون الفرص لدراسة الأمكنة وتنفيذ مخططات إجرامية، تتجلى أساسا في السرقة، وضبط أهالي الدواوير مشبوهين، يتجولون ليلا بين الجبال، ما دفع إلى تشديد الحراسة، وتنظيمها، إذ تظل مجموعات دون نوم طيلة الليل، لحراسة الأمكنة والمنازل المهدمة، ومنع أي شخص من الاقتراب منها. منازل مهدمة جل أصحابها إما ماتوا أو نقلوا على المستشفى وأخرى نصف مهدمة ولم تعد تسمح بولوجها، وأناس يبحثون بين الأكوام علهم يجدون ألبستهم أو بعضا من وثائقهم وأمتعتهم التي وارتها أكوام الأتربة والخرسانة والحجارة.

تارودانت… قصص من الدمار

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أندية تبدأ الموسم خارج القانون

الحبس لموثقة "لهفت" الملايين

مقالات ذات صلة