«الصباح» قابلت أسرا تلملم جراح بعضها وأخرى تبحث عن أقاربها تحت الأنقاض يحاول سكان إقليم الحوز التخفيف من وطأة الحزن، الذي يخيم على الكثير من الأسر، التي فقدت أقاربها، ومواساتهم في هذا المصاب الجلل، في حين أن الكثير ممن فقدوا قريبا أو حبيبا ما زالوا مشدوهين من هول الصدمة. مظاهر الحزن تخيم على كل إقليم الحوز، في حين يأمل الكثيرون أن يتم إنقاذ أقاربهم من تحت الركام، وآخرون عادوا من مدن يشتغلون بها، يبحثون عن أقاربهم. حكايات وروايات مؤلمة، لأقارب من قضوا نحبهم في ليلة تحولت في العديد من المنازل إلى أكوام من الحجارة والأتربة، في حين يتحدث شباب المنطقة عن مسالك وعرة، أعاقت وصول سيارات الإنقاذ.. "الصباح"، انتقلت إلى جماعات الحوز وأسني ومولاي إبراهيم والتقت أقارب ضحايا وكذا ناجين من الموت، باحوا بقصص مؤلمة... إعداد: محمد العوال/ تصوير: (عبد المجيد بزيوات) (موفدا الصباح إلى إقليم الحوز) تلقى إمام قرية أزرو بجماعة تحناوت مكالمة هاتفية، فعم المكان صمت رهيب، وتسارعت دقات القلوب، واشرأبت الأعناق، لينطق لسانه "ولدنا ما زال حيا الحمد الله".. الفضاء هو مقبرة دوار أزرو بجماعة تحناوت مركز الإقليم الأكثر تضررا من الزلزال الذي ضرب مناطق متعددة، فبينما كان سكان الدوار، يقومون بمراسيم دفن أحد شباب الدوار رفقة والده، بعدما انهار عليهما سقف غرفة كانا ينامان بها، كان الإمام وهو يلقي موعظة عن قدر الله، الذي أصاب المغرب، كان يلقي من حين لآخر نظرة على هاتفه المحمول وينتظر فرجا قد تحمله إليه مكالمة هاتفية. رن الهاتف، فرد الإمام على المكالمة، فعم صمت رهيب، في حين اكفهر وجهه، وعلا محياه الحزن، قبل ان تعلوه ابتسامة عريضة، قابلتها ابتسامات من طرف الحاضرين، ليزف خبر إنقاذ حياة طفل من الدوار قضى والده وجده نحبهما تحت الأنقاض. لهج اللسان بحمد الله، وتعالت التكبيرات من هنا وهناك، ووصل صداها إلى نساء الدوار وتعالت الزغاريد، دون أن يدرين ما تفاصيل الخبر، لكن من المؤكد لديهن أن أحد الضحايا كتب له عمر آخر. يحاول أحد سكان الدوار، أن يسفر لكل غريب هناك، عن سبب هذه الفرحة، رغم أنهم في المقبرة، بالقول "الكل هنا يترقب مآل العشرات من الجرحى ممن نقلوا إلى المستشفى. كل لحظة تمر علينا كأنها الدهر. لم نعد نطيق أن يرحل عنا آخرون.. لقد رحل الكثيرون من هذه المنطقة"، يقول دا الحسين أحد سكان المنطقة. نجا يوسف من الموت، بعد أن انهار عليه جزء من سقف منزل متهالك، لكن والده وجده قضيا نحبهما في المنزل، بعدما انهار عليهما سقف إحدى الغرف التي كانا ينامان فيها.. تحول يوسف إلى ابن جميع سكان الدوار بل والقبيلة، كيف لا وهو يردد عبارات أمازيغية يلخصها أحد أبناء الدوار "أنقذوا أبي أنقذوا جدي.. أنقذوني، أريد أن أعود إلى مدرستي. رجاء محفظتي.. رجاء محفظتي، قبل أن تسوء حالته ويُغمى عليه.. تجلس والدته غير بعيد عن المقبرة وبالقرب منها عشرات النساء.. يبدو أن المرأة غير مستوعبة ما جرى لحد الآن. حولت تلك الكلمات طفلا بالكاد يبلغ من العمر تسع سنوات، إلى ابن جميع أبناء سكان الدوار. اختلط الفرح بالحزن، وعم المكان هدوء قليل، لم يدم سوى هدوء تفرضه قداسة المكان، قبل أن يبوح العديد من سكان الدوار، بنوع الألم الذي يسكنهم منذ أمد بعيد، منها ضعف البنيات التحتية، والتي حالت اليوم دون تسريع وتيرة الإنقاذ. بعد دفن الابن ووالده، كانت الوجهة نحو المنزل الذي انهار جزء غير يسير منه، هنا وقف العشرات يتألمون في صمت، يقدمون التعازي لبعضهم البعض، ومنهم من لا تستأذنه دموعه.. عائشة.. عادت من الموت مرتين الحزن يخيم على هذا الدوار، وحدهن نساء القبيلة يحاولن بمدخل الدوار أن يواسين بعضهن البعض، تقول "إيجو" التي ترتسم على وجهها تجاعيد الزمن القاسي "نحن هنا لا ندري هل نعزي بعضنا البعض، أم نهنئ بعضنا البعض.. نساء فقدن أزواجهن وأبناءهن، ومنهن من فقد أكثر من ذلك.. لا نفترق أبدا نحن نساء زلزال تحناوت، نعيش معا.. قدرنا أن نعيش معا لحظات الألم ". أما عائشة المتحدرة من تمصلوحت، فقد أصرت رغم حالتها الصحية على أن تبوح بجزء من ألم يسكنها. تقول عائشة التي أبكت من حولها "بالأمس، جئت من المستشفى من مراكش بعد أن وضعت مولودي قبل ثلاثة أيام. كنت فرحة جدا، لكن زوجي وابني الرضيع قضيا نحبهما، وأنا لازالت وحيدة هناك.. أملي الوحيد أن يصل صوتي إلى كل مسؤول . أريد أن أعيش بالقرب من قبر ابني وزوجي". تضيف "عائشة" والدموع تنهمر من عينيها، "لن ارحل من هنا، فقدت كل شيء. ضاع مني كل شيء. أنا هنا لأقبل قبر زوجي وابني فقط". تحاول الكثير من نساء القبيلة أن تضمد جراح عائشة، وتكفكف دموعها، لكن صافرات إنذار سيارات الإسعاف التي تجوب المنطقة، تُقلب مواجعها، وتزيد من ألمها وتعمق جراحها. تركنا تحناوت التي تتألم. ونحن في طريقنا نحو جماعة أسني التي تتكون من 74 دوارا، كنا نواجه من حين لآخر ركاما من الأحجار أو الصخور، تفرض علينا التوقف قليلا، قبل مواصلة السير، في طريق محفوف بالمخاطر.. ورغم صعوبة المسالك الطرقية والخطر الذي قد تشكله على مستعمليها، فإن حركيتها تثير الاستغراب، لكن أحد الشباب، كشف لنا سر ذلك "أغلب من يستعملون الطريق، لهم عائلات تقطن هناك بالمنطقة، ولا يتوفرون على أخبار، لأن أغلب سكان الدوار فقدوا اية وسيلة للاتصال بالأقارب وتطمينهم". كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء. وصلنا للتو لدوار تاشديرت بجماعة أسني.. دوار مترامي الأطراف. اقترب منا أحد سكان الدوار "نحن منطقة منكوبة هناك نساء كثيرات فقدن أزواجهن وأقاربهن، وسكان الدوار ينتظرون مآل أقاربهم، لم نعد نريد شيئا سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه". يشير الرجل بسبابته إلى امرأة تجلس القرفصاء بالقرب من مقبرة "تلك فقدت ابنيها وزوجة أحدهم وزوجها، في حين لا علم لها بابنها الآخر، هل ما زال على قيد الحياة أم قضى نحبه هناك". أسني المنكوبة لم يكن من السهل إقناع أحد من سكان الدوار بالحديث عن مأساة انسانية غيرت وجه الدوار، وحولت حياة سكانه، من مستقبلي السياح إلى باحثين تحت الأنقاض عن الأرواح. لكن "أحماد السمطي" ذو 65 سنة، "أملي الوحيد في ابني.. لقد فقدته.. رحل خميس عني، ورحلت زوجته وابنيه.. أي ألم أفظع من الألم نفسه.. رجاء لا أريد شيئا.. أريد أن أرحل لأقبل ابني وحفيدي"، ويضيف احماد الذي يحاول بعض سكان الدوار مواساته وتخفيف معاناته، "الألم أكبر ما يتصور أي كان.. رحل ابني وحفيدي، وزوجة ابني لا خبر عنها". ندلف قليلا نحو أزقة جماعة أسني، فيستقبلنا أحد المواطنين، ليدلنا على حجم الخسائر المادية، هنا بالقرب من البنايات الإدارية، مات العديد من الأشخاص، عددهم لا يتعدى الأربعة هناك (وهو يشير بيده إلى دوار بالقرب من مقر قيادة أسني الذي انهارت أجزاء كبيرة منه).. ويضيف كل سكان الدوار، يعيشون خارج منازلهم، لم تعد تلك المنازل آمنة، تركنا كل شيء، والشارع هو ملاذنا الوحيد. ويضيف المتحدث، "تركنا كلنا أغراضنا هناك، وطلبت من شقيقي البالغ من العمر 19 سنة، أن يعود بعد الهزات الأرضية، لجلب هاتفه المحمول، لكن لقي حتفه هناك، بعدما انهار عليه جزء من المنزل". لملم جراحه وغادر دون استئذان، والتفت يسارا نحو منزل انهار الجزء الأكبر منه وقال "صوره للذكرى.. لا تسألونني عن ابنتي الصغرى، هل توفت رفقة جدتها التي انهار عليها منزل أختي.."، ثم غادر. مولاي إبراهيم.. قصص مؤلمة بجماعة مولاي إبراهيم، يبدو منذ الوهلة الأولى أن حجم الكارثة كبير، فالعديد من المنازل انهارت، شأنها في ذلك شأن بنايات إدارية. وتعكف مصالح التجهيز والعمالة والجماعة، على فتح الطريق، التي أغلقتها الصخور التي تتساقط من حين لآخر. تتوقف هنا أو هناك بتراب هذه الجماعة، للاستفسار عن حجم الخسائر، حتى تأتيك الشهادات بشكل انسيابي، ويلوح لك آخرون هناك لتوثيق مشاهد دور أو فنادق غير مصنفة تحولت إلى خبر كان. لا يجد سكان جماعة مولاي إبراهيم حرجا في تعداد الأضرار المادية، وانعكاسها على نشاطهم الاقتصادي، لكن ألم فقدان قريب أوجع من ضرر زائل، يقول عضو جماعي. نتجول قليلا بين دروب وأزقة جماعة طواها النسيان إلا من ضريح، يعيد إليها بريق حياة اقتصادية موسمية، لكن في خضم البحث بين الأنقاض، نصادف شابا في الأربعينات من عمره. "مصطفى"، شاب ذو 42 سنة، اشتغل مرشدا سياحيا، وبعدها في العديد من الحرف الموسمية، كان يسير بخطى متثاقلة، وخلفه طفلة بالكاد تبلغ من العمر عشر سنوات. التفت قليلا، وواصل المسير.. كان الرجل يحمل على ظهره حقيبة يدوية يبدو أن بها ملابس واغطية وبجانبه ابنته، توقف قليلا وقال كلمات وواصل مسيره "أنا أشتغل خارج مركز مولاي ابراهيم.. جئت صباح اليوم بعد هذا الزلزال، لقد فقدت زوجتي وابني ومنزلي، وملكي الوحيد اليوم ابنتي هاته"، وهو يشير إلى طفلة لم تبلغ بعد سنتها العاشرة. اتخذ الشاب من تحت شجرة فضاء لقضاء ليلته الأولى ليلة السبت/ الأحد رفقة ابنته.. "أنا جئت هنا بعيدا عن سكان الدوار، اريد أن أحضن ابنتي"، حضن ابنته، وطلب منا الرحيل بعد أن استسلم لدموعه. هنا بمركز مولاي إبراهيم، يقول أحد سكان "لقد فقدنا أزيد من 30 شخصا من مركز الجماعة، جميعهم قضوا نحبهم، وما زال عددهم منهم تحت الدمار.. زوجتي فقدت شقيقها وزوجته وابنتيه"، ثم يضيف "أي ألم وأي فقدان هذا.."