فـي ضيـــافـة الحـــجــــاج

من جحيم أوفقير إلى زنازين البرواكية بالجزائر في وسط الليل، نفاجأ بإخراجنا من زنزانتنا، والشتم يلازمنا، ألقي بنا في قاعة، حين ولجناها وجدنا شخصين يرثى لهما، خافا مني، لأني بلباس عسكري، وخفت منهما لبشاعة صورتهما، حاولا مفاتحتي الحديث، ولاستفسار، من أنت؟ أين كنت، وبكوني تخيلت نفسي أمام لعبة مخابراتية جديدة، أمسكت عن الكلام ، وأشرت إليهما بالأصبع كي يعفياني من الحديث... وتبين في ما بعد أن أحدهما هو سي إسماعيل أحد رموز الثورة الجزائرية، محكوم بالإعدام في الفترة الاستعمارية، رئيس اللجنة الاجتماعية في أول مجلس شعبي وطني (البرلمان)، مسؤول سابق في رئاسة الجمهورية، وأحد الزعامات القبائلية المعروفة، من مؤسسي الحركة الأمازيغية.والثاني صالح مميد العقبي، أديب ومؤرخ، مستشار الشؤون الثقافية برئاسة الجمهورية وقت الرئيس احمد بن بلا، اعتقل مع مؤلفاته ومخطوطاته، هكذا تغير طعم الثورة ولونها، لا مجال للتعليق.في غرة فاتح نونبر، العيد الوطني للثورة، كان موعد الرحلة في ساعة مبكرة من هذه الليلة، تراصت الصفوف مشكلة طابورا طويلا، محاصرين بالبنادق الموجهة ضدنا وكأننا على أهبة انفجار استشهادي.هذا المشهد فجر في داخلي إحساسا مغايرا للإحساس الأول، حيث كنت أعتقد أنني الوحيد في القفص، المعنى الوحيد، وبأن كل الأدوار مفتعلة والأشخاص ممثلون ومسرحيون والصخب تأثيث للفضاء بهدف التأثير النفسي علي ...الأشياء الآن تبسطت في ذهني، وتعقدت في الوقت نفسه حين وجدت نفسي وسط تركيبة متداخلة من القضايا والوجوه، يجمعها وحدة الانتماء والتجانس والشعور بأمتهان الكرامة، يجمعنا وشم التعذيب، تقديم ضريبة عبث سياسة الثورة والجيش، وجعلتني أتساءل هل إلى هذا الحد و لدت الثورة أقزاما بهذا الشكل؟ وكيف للثورة أن ترسم شماتتها التاريخية على أجسادنا و تزرع فيها الأوبئة؟قد أستطيع تفسير قضيتي بخلفياتها السياسية، كما ذكرتها في السابق، لكن أن تأكل الثورة أبناءها وتنهج خراب الديار، وأن تفرش بساطا أحمر، يعبر منه الجزائري نحو الدم والموت لا الوطن. أما أنا فلم أكن إلا عنصرا ضروريا ليكتمل الإخراج.الصورة التي تتناول أوضاع الجزائر اليوم، تنهض من لا وعيي الآن، وأنا أعيد صور الرحلة في غرة فاتح نونبر، وفي زاوية الانتظار حين مثولنا أمام قاضي التحقيق، نلملم أطرافنا نتفحصها هل بقي فيها حياة، نتيجة عمل مضن منظم تكدس في شهر أكتوبر الاستثنائي قبل ذكرى الثورة.في غمرة الاحتفال، حملنا آهاتنا ودمعنا المكفف، استعدادا لرحلة صوب المجهول، وزعت علينا أوراق مكتوبة بالفرنسية، ولا يسمح للمعتقلين الاطلاع على فحواها، وكل من تساءل عن المضمون، تعرض لشتم، واتهم بقلة الحياء، وبأنه لا يثق بالجيش.الأيادي معصومة بالقيود، ويدفع بالطابور لركوب شاحنات عسكرية تحت حالة استنفار قصوى وحركات مسرعة، وأضواء منذرة بالخطر، متحركة وأخرى ثابتة، انطلق الموكب، السيارات الإنذارية تسبق السجناء، في عجلة فائقة وكأنها تتقدم مواكب رئاسية.كانت الاحتمالات متعددة عن اتجاه الشاحنات، تصورت أن كل شاحنة تقل الأشخاص الذين سيطلق سراحهم في أماكن سكانهم، فكنت أقدر المسافة، وانتظر وصولي إلى باب الزوار (مقر سكاني)، تجاوزت المسافة تخميناتي، فتأكدت أن المقصد جهة أخرى، فجأة تذكرت الصحراء التي هددوني بها، تذكرت ما قيل عن سجونها، تذكرت من سجن فيها، تذكرت جوها الذي أعشقه، تذكرت مرابع الصبا واتالشباب، تذكرت تيزنيت.مع طي المسافات، أخذ منا الإنهاك والتعب مأخذه وضاعف منه هيأة الجلوس فوق مقاعد حديدية، ناهيك عن رصيد متاعب شهر كامل، نتائجه بدأت تظهر، الروائح الكريهة تنبعث من بعض المعتقلين، فجأة بدأت أشم روائح متعفنة تصعد مني، آه إنه الإسهال، لقد قضيت حاجتي في سروالي.طلب البعض منا الوقوف لقضاء حاجته، لكن "القانون" يمنع الوقوف، ولا بديل إلا الصمود لمن استطاع إليه سبيلا.ونحن نستقبل في مقرنا الجديد، يتوارى إلى أسماعنا صوت آخرين، لغط و عويل، صرخات المعذبين، فكرت في الأيام الطويلة التي قضيتها في الحنين، والترحال لم أعد أفكر إلا في الوحل والدم.ونحن ننزل من الشاحنة، تكسر تنهداتنا استغاثات منطلقة من أفواه وصدور المعذبين، تثير بإزعاجها الرهبة، ولم نكن نفهم سر هذا الصراخ إلا بعد أيام. العمش يغطي العيون، التوترات تسكن أجسادنا، تخيلات مشهدية وذكريات تنساب كصنبور ماء، تذكرت مراحل التعذيب التي يمر منها الغير، تذكرت الصحراء، ما من وردة في هذا الجهيم كما قال شاعر، أو طير يحلق في هذه الأجواء، جدران عليا وسميكة تحيط بالساحة الكبرى التي نقف بها تذكرت ساحات الإعدام التي يمر منها الغير والسلخ و التنكيل. تيقنت آنذاك أني في رحلتي الأخيرة نحو الحتف، لأسلب نفسي الأخير، لأدخل عالم المجهول، لكن بصيصا من الأمل لاح في الأفق، ففجأة تغيرت طبيعة المعاملة، و قدمت لنا صحون " اللوبية" والخبز مع التهنئة بالسلامة، فعلت الوجوه البسمة بدل التهجم، وانجلى كل شيء، كغيري من ضحايا التعذيب استعدت شيئا من توازني النفسي، حيث لم أكن أملك أي إمكانية للصمود، وما عادت القدرة الجسدية لتتحمل المصاعب الجديدة، فالأحرى المعنوية في ظل رحلة مليئة بانكسار جميع خيوط الأمل."أنتم الآن في البرواكية، ناحية المدية، و هذا قدر الله، إنه المكتوب..." تشعب الحديث عن القضاء والقدر منذ انطلاق الرحلة، وظل ملاذا حاضرا بالتشعبات نفسها، كنا بحاجة إلى نصيب من الراحة لتلتئم جراح جسدية غائرة، بعد شهر كامل من السياط والتعذيب، أما الجروح المعنوية فلم تندمل بقدر ما زادت، بحيث لم يلق بنا في زنازننا، لنواجه قدرنا وقضائنا، بقدر ما حرص مسؤولو الجيش على إخضاعنا لقدرهم بإيصالنا إلى القاعة ومعنا المحاضر المنسوبة إلينا يسهر عليها أحد المشرفين الرئيسيين على التعذيب. إعداد: يوسف الساكت

فـي ضيـــافـة الحـــجــــاج

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جرائم الأصول : ســـــوء تفــــاهـم

نفائس فاس العتيقة:

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات