ارتباط تراث المجموعات الغنائية بالهم المغربي انبهر المغاربة من كل فئات المجتمع بأغاني المجموعات الغنائية، التي ولدت من رحم الأحياء الشعبية المهمشة التي أطلقت أولى أغانيها في سبعينات القرن الماضي، وتفاعلوا مع كلماتها البسيطة إلى حد الجذبة والاحتجاج، فاختلط الفن والذوق بالروح والجسد للتعبير عما يخالج النفس من أحلام وأفكار، دفاعا عن الحقوق المشروعة التي تم هضمها، وانتقادا للأوضاع الاجتماعية المزرية. ولم يكن أحد في البداية يتوقع النجاح والانتشار الباهر لفرقة غنائية مكونة من خمسة شباب يتحدرون من الحي المحمدي، حي الفقراء والمقاومين، " ناس الغيوان"، وهم، بوجميع أحكور (توفي في 1974)، والعربي باطما (توفي في 1997)، وعبد الرحمن قيروش الملقب بـ"باكو" (توفي في 2012)، وعلال يعلى، ثم عمر السيد. وصنف المثقفون أغاني مجموعة ناس الغيوان ضمن "الغناء الملتزم"، الذي يحتج على الأوضاع السياسية والاجتماعية، ونشروا مقالات في مجالات متخصصة، وفي الملاحق الثقافية للصحف الحزبية، وقارنوا بينها وبين ما أطلقوا عليه عن خطأ " الفن الهابط" والذي شخصوه في فن الشيخات، وسهرات المدن التي رعاها وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، باقتراح من أساتذة باحثين في مختبر البحث في أم الوزارات مباشرة بعد الاحتجاجات الدموية ل 1981 و1984، قصد إحداث التوازن بين المجموعات الغنائية، وتقليص رقعة انتشار المحتجين الذين نشروا اليأس والعدمية، وفق منظور السلطة آنذاك. وعلى درب مجموعة " ناس الغيوان" برزت مجموعات غنائية أخرى، شكلتها شبيبات أحزاب سياسية، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي الذي نشط مناضلوه في دور الشباب، وفي الجامعات، ودور السينما، والتي كانت تحمل نفحة " ثورية" بكلمات محرضة على الاحتجاج على الأوضاع السياسية . ورغم قوة مجموعة ناس الغيوان ونفاذ أغانيها وانتشارها، تعاملت السلطات المغربية معها بذكاء، إذ سمحت لأفرادها ليس فقط بتنظيم سهرات في مسارح وقاعات السينما، وقاعات رياضية مغطاة، بل نقلتها عبر شاشات القناة الأولى الوحيدة التي كانت سائدة لحظتها، قصد امتصاص غضب الشارع الذي كان يغلي بفعل ارتفاع عدد الفقراء والعاطلين عن العمل، مباشرة بعد تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي للتقويم الهيكلي، عبر إخراج أغلب المواد الاستهلاكية الأساسية من صندوق المقاصة، ما أدى إلى ارتفاع سعرها بشكل مضاعف، زادت حدته فترة الجفاف التي عجلت بهجرة قروية كبيرة نحو أحزمة البؤس بهوامش المدن. وكانت التوقعات تشير إلى أفول " ناس الغيوان" في بداية عملها، إذ انطلقت بأداء أغنية عادية للأطفال بعنوان "قطتي صغيرة واسمها نميرة"، لكن التحول حصل حينما صدح أعضاؤها بأغان قريبة من هموم المواطنين وطنيا للاحتجاج على الأوضاع المزرية، التي عاشها الملايين من المغاربة الفقراء ودوليا في دعم الشعب الفلسطيني. واعتمدت مجموعة " ناس الغيوان" على الفطرة والتلقائية في إنتاج الكلمات، والاستعانة بالتراث الشفوي لأداء الأغاني بنبرة احتجاجية صرفة، وعقد مقارنة بين وضعية المعيش اليومي للأغنياء، وهم قلة، وبين الملايين من الفقراء والمهمشين، فانجذب الجمهور المغربي لمواويل عمر السيد، وهو ينقر على البندير، وصيحات الراحل العربي باطما وهو يضرب على الطبل المزدوج، بإيقاعات شعبية تؤديها آلات موسيقية مثل "البانجو" و"الهجهوج"، بصوت باكو، ورقصاته فكانت الأغاني "الاحتجاجية" لهذه الفرقة تلهب بالفعل مشاعر الملايين من الجماهير المغربية، مثل أغنية "مهمومة مهمومة يا خيي مهمومة"، و"غير خذوني"، و"سبحان الله صيفنا ولا شتوا"، وغيرها. وبعد ظهور فرقة ناس الغيوان مباشرة تأسست فرقة "جيل جيلالة"، إذ رغم إعلان توجهها الصوفي، رفعت من شأن الأداء الاحتجاجي بإسهام صوت نسائي سكينة الصفدي بأغان تحمل صفة "الهم الإنساني». وبزغ نجم مجموعة "لمشاهب" في بداية سبعينات القرن الماضي، ومثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" ولدت من رحم البيضاء، المدينة" الغول" التي كانت تحمل زخم الفن والسياسة والاحتجاج بحكم أنها أكبر مدينة للطبقة العاملة والكادحة، وتلتها مجموعة " السهام"، والتي سارت على درب نشر الكلمة الملتزمة والحزينة، وانتقاد الأوضاع الاجتماعية المزرية. ومن مثقفي اليسار الذين وصفوا أغاني المجموعات الغنائية، ب"الملتزمة"، هناك الفنان سعيد المغربي الذي أدى قصائد كثيرة للشاعر عبد الله زريقة، والفنان اللبناني مارسيل خليفة الذي أدى قصائد الشاعر الكبير محمود درويش ، والفنان المصري الشيخ إمام رفقة الشاعر الزجال أحمد فؤاد نجم، هم أنفسهم الذين عادوا بعد الانفراج السياسي في نهاية تسعينات القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة مع تنظيم هيأة الإنصاف والمصالحة وجبر ضرر ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، إلى الإعلاء من شأن فن الشيخات واعتباره فنا راقيا، وإنهاء الحرب السابقة بين وصف الفن" الملتزم" بهموم الناس والملتصق بقضاياهم المشروعة والعادلة، والفن "الهابط" الذي يكرس دونية الفقراء، عبر إلغاء التمييز اللغوي الوصفي. وبعد أفول المجموعات الغنائية، وتراجع اليسار، وانتشار التوجه الإسلامي، عاد من جديد مصطلح الفن " الملتزم" في مواجهة " الهابط" عبر مجموعات غنائية من نوع آخر، جسدها أيضا أجانب اعتنقوا الإسلام، وآخرون رددوا كلمات تتغنى بالوطن والقيم الإنسانية، لكن الصراع لم يدم طويلا، ليصبح الفضاء مفتوحا على كل الأغاني بعد تعميم الانترنيت، وأشرطة فيديو كليب، ومواقع التواصل الاجتماعي. أحمد الأرقام