في ذكرى رحيل عراب الاقتباس والتأصيل المسرحي حلت يوم خامس فبراير الجاري الذكرى السابعة لرحيل الفنان الطيب الصديقي الذي غيبه الموت في مثل هذا الأسبوع عن سن ناهزت التاسعة والسبعين، بعد مسار حافل طبع فيه الحركة المسرحية بالمغرب والعالم العربي، بشكل جعل اسمه مقرونا بالريادة والجدة على مستوى ابتكار أشكال مسرحية اتجهت إلى النهل من التراث وتأصيله. في هذا الخاص تنقلكم "الصباح" إلى محطات من مسار صاحب المقامات. إعداد: عزيز المجدوب اسم "الطيب الصديقي" أشهر من نار على علم، فلا يمكن ذكر المسرح المغربي دون استحضار إسهامات الرجل في تطويره وخلق تراكيب جديدة فيه، خاصة أن الصديقي ممتلك لأدوات صناعة الإخراج بشكل جعله صانع فرجة بامتياز، من خلال أعماله المسرحية العديدة والتي جمع فيها بين الاقتباس والترجمة والتأليف. رأى الطيب الصديقي النور في الصويرة سنة 1937 وسط أسرة كان الأب فيها علامة وفقيها ومؤرخا هو الشيخ محمد بن السعيد الصديقي صاحب كتاب "إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة". ووسط أسوار مدينة الرياح وداخل مجالها العتيق تدرج الطفل الطيب في بيئة مشبعة بالانفتاح والتعايش بين المسلمين واليهود، كما فتح عينيه مبكرا على القراءة داخل خزانة والده التي كانت تعج بالمصنفات والكتب والمخطوطات. من الصويرة إلى درب السلطان وقبل أن يتم سنته العاشرة شاءت الظروف أن تنتقل أسرة الصديقي إلى البيضاء، إثر مضايقات تعرض لها الوالد، فاستقر بهم المقام في درب البلدية بدرب السلطان، وسط مجال شعبي كان يعج بالتحولات والحركية التي ميزت هذا الحي العريق الذي ترك أثره في نفسية الطيب من خلال المشاهد التي كان يخزنها في ذاكرته، من مشاهد "الحلاقي" التي كان يغشاها بحديقة البلدية، قبل أن يتم إقبارها وغزوها بالإسمنت قبل حوالي سنة. التحق الطيب الصديقي بثانوية أبناء الأعيان (ثانوية فاطمة الزهراء حاليا)، وفيها تابع دراسته، وكان يحلم بأن يكون مهندسا، في المقابل أغراه مسؤولون فرنسيون بالثانوية بالتوجه لدراسة التكوين المهني من أجل التخصص في مجال البريد، لكنه بعد أن استشار والده نصحه بالتوقف عن الدراسة على الأقل سنة، من أجل تثقيف بشكل حر، ثم أخذ القرار المناسب في مجال الدراسة. وتدخلت الصدفة في توجيه الطيب الصديقي بعد أن اكتشف ذات يوم إعلانا بإحدى الجرائد يخص "تدريبا على الفنون المسرحية" ومن بينها فن الهندسة المسرحية، فاختار هذا التخصص لا لشيء سوى أنه يلتقي مع رغبته القديمة في دراسة الهندسة ولو تعلق الأمر بتخصص آخر له علاقة بالمسرح الذي لم يكن يعرفه آنذاك بشكل واضح. التدريب الأول وهكذا التحق الصديقي بأول تدريب نظمته الشبيبة والرياضة سنة 1954 انخرطت فيه أسماء سيكون لها في ما بعد، شأن كبير في مجال الفن، مثل أحمد الطيب العلج ومحمد عفيفي وخديجة جمال وغيرهم. ولم يكن من بين هؤلاء من يتقن اللغتين العربية والفرنسية سوى الطيب الصديقي، لذا اختاره أندري فوازان وشارل نوغ المشرفان على التدريب لمساعدتهما في ترجمة بعض الدروس النظرية في المسرح لفائدة المستفيدين من التدريب. وخلال السنة نفسها نظمت الشبيبة والرياضة أول تدريب لفن الدراما في المعمورة، فشكلت أول فرقة محترفة تحت اسم "المسرح المركزي المغربي للأبحاث المسرحية"، وشارك الصديقي في عملين ضمن هذه التجربة هما "عمايل جحا" المقتبسة عن "حيل سكابان" لموليير و"الشطاب" وهي تأليف مشترك مع عبد الصمد الكنفاوي والطاهر واعزيز. وقدمت المسرحيتان في مهرجان الأمم بباريس سنة 1956، ولفت الصديقي وبقية أعضاء الفرقة الأنظار من خلال هذه المشاركة التي كتبت عنها الصحافة الفرنسية بإسهاب، كما تناولها النقاد باهتمام كبير خاصة أن الأوساط الفرنسية كانت تجهل عن الممثلين المغاربة كل شيء. وركزت بعض الكتابات النقدية الفرنسية والإنجليزية على أداء الشاب الطيب الصديقي الذي وصف آنذاك بأنه "أحسن ممثل أجنبي"، وهو ما دفع المسرحي هوبير جينيو لاستدعائه من أجل تدريب آخر بمدينة "رين"، وهناك تمكن الطيب في هذا التدريب من الإلمام بتقنيات المسرح، وقضى موسما مسرحيا كاملا عمل فيه مساعدا مكلفا بالمحافظة العامة بالمسرح الوطني الشعبي لجان فيلار مطلع 1957. المسرح العمالي... مختبر التطبيق وبمجرد عودته إلى المغرب أسس الطيب الصديقي بتكليف من الاتحاد المغربي للشغل، فرقة تابعة للمركزية النقابية أطلق عليها اسم "المسرح العمالي" حاول فيها تطبيق ما استفاده خلال التدريب والتكوين الذي تلقاه بفرنسا، وكانت الفرقة تتلقى تداريبها بمقر قرب محطة القطار الميناء حاليا بالبيضاء، فكان الصديقي يقدم كل ليلة مسرحية خاصة بالطبقة العاملة، مرة لفائدة عمال الميناء ومرة لعمال مكتب التبغ وأخرى لفائدة عمال الحافلات، تعقبها مناقشة عروض بين الممثلين والجمهور. وقدمت الفرقة خلال موسمها الأول ابتداء من نونبر 1957 مسرحيات من قبيل "الوارث" المقتبسة عن رينيار ومسرحية "بين يوم وليلة" لتوفيق الحكيم، ثم "المفتش" لغوغول التي قدمت في مارس 1958 لمناسبة تأسيس الاتحاد المغربي للشغل. وتوقفت الفرقة مؤقتا حوالي موسم قبل أن تعود في خريف 1959 وتظهر من جديد من خلال مسرحية "الجنس اللطيف" التي اقتبسها الطيب الصديقي عن مسرحية "برلمان النساء" لأريستوفان. بعدها التحق الصديقي بفرقة تابعة للشبيبة والرياضة مطلع الستينات، واقتبس لها وأخرج مسرحية "فولبون" لبن جونسون، وخلال الفترة نفسها طلب روجي سيليريي مدير المسرح البلدي بالبيضاء من الصديقي إنشاء فرقة تتخذ من المسرح مقرا لها، وهكذا صار اسمها "فرقة المسرح البلدي". وأظهر الصديقي من خلال هذه التجربة دينامية حقيقية تمثلت في اقتباس وإخراج أربعة أعمال مسرحية هي "الليدي كوديفا" لجان كانول تحت عنوان "الحسناء"، و"رحلة شونغ لي" لساشا كيتري و"لا لوكندييرة" لكولدوني تحت عنوان "مولات الفندق" و"محجوبة" المقتبسة عن "مدرسة النساء" لموليير، كما ستعيد الفرقة ذاتها مسرحية "الوارث" التي سبق أن قدمت ضمن تجربة المسرح العمالي. وواصل الصديقي اشتغاله ضمن فرقة المسرح البلدي خلال الموسم الموالي، فقام باقتباس وإخراج "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، تحت عنوان "في انتظار مبروك"، قبل أن يضع حدا لنشاطه ضمن الفرقة. وفي 1963 أنشأ الطيب الصديقي الفرقة التي تحمل اسمه، وجعل من سينما "الكواكب" الشهيرة بدرب السلطان مقرا لها، فقام بإخراج مسرحية "لعبة الحب والمصادفة" لماريفو، كما دخل خلال الفترة نفسها مرحلة جديدة من الممارسة، تمثلت في إشرافه على إعداد وإخراج عروض ضخمة ومناسباتية، وستصبح هذه الظاهرة مع تعاقب الأعياد والمناسبات أحد المكونات الأساسية للإبداع المسرحي عند الصديقي. وفي دجنبر 1964 قدمت فرقة الصديقي مسرحية "مومو بوخرصة" المقتبسة عن "آميدي" لأوجين يونسكو، وسيتم تعيين الصديقي خلال الفترة نفسها مديرا فنيا للمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، قبل أن يتم استدعاؤه بعد ذلك لتولي إدارة المسرح البلدي بالبيضاء. "في الطريق" ... بداية طريق التأليف دخل الصديقي مرحلة جديدة وعادت فرقته لتحمل اسم "فرقة المسرح البلدي" وقدمت خلال موسمها الأول مسرحية "سلطان الطلبة"، وهي من تأليف عبد الصمد الكنفاوي وأخرجها الصديقي في أكتوبر 1965، وفي مطلع السنة الموالية قدم الصديقي لأول مرة مسرحية من تأليفه بعنوان "في الطريق"، سيحولها في ما بعد في الثمانينات إلى فيلم سينمائي بعنوان "الزفت". وواصلت الفرقة عروضها خلال الموسم نفسه بمسرحية بعنوان "مدينة النحاس" من تأليف السعيد الصديقي، الشقيق الأكبر للطيب الذي قدم أيضا واحدة من أنجح مسرحياته نجاحا وشعبية وهي مسرحية "ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب". ترجم الطيب الصديقي واقتبس أكثر من ثلاثين عملا دراميا، وكتب أكثر من ثلاثين نصا مسرحيا باللغتين العربية والفرنسية، وأخرج العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية والأشرطة الوثائقية، ومثّل في عدد من الأفلام الأوروبية والعالمية، منها فيلم "الرسالة". اهتم بالفن التشكيلي، وساهم في تأليف كتاب حول الفنون التقليدية في الهندسة المعمارية الإسلامية. كما تعامل مع التراث المغربي والعربي والعالمي منها "مقامات بديع الزمان الهمداني" و"أبو نواس" و"رسالة الغفران" و"أبو حيان التوحيدي" وسلسلة البساطات "الفيل والسراويل" و"لو كانت فولة" و"قفطان الحب" وجنان الشيبة" وأعمال أخرى. كما شكلت تجربة الطيب الصديقي المسرحية مدرسة تخرج منها العديد من الممثلين الذين أغنوا الساحة الفنية بالمغرب، كما أفرزت ظاهرة المجموعات الغنائية خاصة مجموعتي ناس الغيوان وجيل جيلالة اللتين ترعرع معظم أفرادهما في حضن مسرح الطيب الصديقي، ومنه أخذوا فكرة استلهام التراث ليس مسرحيا فقط بل موسيقيا وغنائيا وهو الشكل الذي جاءت عليه تجربة المجموعات الغنائية التي أعادت الاعتبار للأهازيج والألوان التراثية. بكر الصديقي... المؤسسة والاستمرارية ما زالت "مؤسسة الطيب الصديقي للثقافة والإبداع" تهتم بتوثيق ما خلفه الراحل الطيب الصديقي من أعمال مكتوبة ومسرحيات ومؤلفات وحوارات، وبالمساهمة في نشر الممارسة المسرحية عبر توفير التأطير والتكوين والمواكبة. وقد خصصت المؤسسة ، التي أنشئت سنة 2008، ويرأسها بكر الصديقي نجل الفنان الراحل، صفحة خاصة على موقع "يوتوب" للراغبين في مشاهدة أعمال الصديقي منذ الستينات، إضافة إلى أفلام وبرامج شارك فيها المسرحي الراحل. وتأتي هذه الخطوة، حسب بكر الصديقي، في إطار مشروع مؤسساتي شامل، فيه الأرشيف والتكوين عن طريق الورشات وإحياء الذخائر عبر إنتاج المسرحيات، حيث أنتجت بعد وفاة الصديقي ثلاث مسرحيات، فضلا عن المشاركة في العديد من الورشات والمعارض والمهرجانات التي خصصت احتفاليات تستعيد فيها روح وإبداع الراحل الطيب الصديقي. كما قامت المؤسسة بتنقيح بيبليوغرافيا الطيب الصديقي على موقع ويكيبيديا، وأثرتها بمختلف المعطيات المتعلقة بسيرة هذا الفنان، والأعمال التي شارك فيها وأخرجها وساهم في تأليفها للمسرح والسينما والتلفزة، إلى جانب عرض الجوائز والأوسمة التي توجت مسار عميد المسرح المغربي. وأعادت المؤسسة تقديم العديد من الأعمال من ريبرتوار الراحل مثل "ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب" و"في الطريق" و"موليير أو حبا في الإنسانية" التي مثلت المغرب في أبريل الماضي، في التظاهرة العالمية التي أحيتها فرنسا احتفاء بالذكرى السنوية الأربعمائة لميلاد موليير، ب"فضاء ريسو" بفرساي.