نص مستوحى من روايات ومحاضرات الدكتور يوسف زيدان هذه المقامة مستوحاة من بعض روايات ومحاضرات الدكتور يوسف زيدان. كُتبت في أكتوبر 2019، وأُلقيت في اجتماعٍ لنادٍ للقراءة في نونبر من السنة نفسها، وكان ذلك في بروكسيل بحضور يوسف زيدان الذي اقترح علي نشرها. وها أنا أغتنم فرصة زيارة زيدان للمغرب، أخيرا، في إطار أنشطة جمعية "أفكار" لكي أفرج عنها. بقلم: عزيز ددان(*) حدثنا المعزز عند إيل، المعروف بعزازيل قال: "سئمت صحبة الجن و الشياطين، ومناوشة الملائكة في كل حين، وتعبت نفسي من التباريح، ودموع التماسيح، وتاقت إلى بعض الترفيه والترويح، عساها من عناء الوسوسة والغواية تستريح. فقلت لأصطحبن إنسيا يقدرني، ويعرف منزلتي ولا يبخسني، فأجلت ناظري في مشارق الأرض ومغاربها، لعلي أجد بغيتي بها. فلم ألف بين كل العباد، من يفي بالمراد، غير أديب اشتهر في بلاد العرب، بل ذاع صيته في كل صوب وحدب، وقد كتب رواية جعل لها اسمي عنوانا، ويدعونه يوسف زيدان ، ولد في سوهاج المصرية، ونشأته ودراسته بالإسكندرية، وما أدراك ما الإسكندرية، كانت منتدى الفكر والعلوم من الألف إلى اليا، ومنارها بات من عجائب الدنيا، وليوسف هذا باع طويل في الفكر والفلسفة، وفي القول الفصيح دون زخرفة. يبرع في التقاط الألماس، من كلام الناس ويستخلص من الأسفار الرحيق، وهو في الصوفية يم عميق. فتقت إلى رفقته، وعزمت على زيارته، فتوكلت، وبلغة الأباليس بسملت، ثم علوت صهوة غيداق صعد بي من بلاد الأبالسة، إلى مصر المحروسة، فوجدت ناسها في هرج ومرج، صابرين، إذ قيل الصبر مفتاح الفرج، لكن معظمهم، كغيرهم، من بلاد العرب سلسي الاستئناس، والانقياد لكل وسواس خناس، يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. فما قلتها إلا وأحسست لهبا يلفحني، وشواظا من نار كاد يحرقني، فأدركت أنه شهاب، من الشهب التي يسلطها رب الأرباب، على كل شيطان مريد، يجازف بتلاوة آية من القرآن المجيد، فلولا سرعة الغيداق، لأدركني المحاق، أو قيام الساعة ، ولما كنت معكم الساعة، فحمدلت على طريقة الأباليس، ثم تسللت من الكواليس، حتى لا يفطن إنس ولا جان، لزيارتي ليوسف زيدان . فما إن طرقت بذيلي بابه، حتى وصلتني الإجابه: أدخل يا عزازيل فالممر سالك، إني كنت في انتظارك، فعجبت كيف عرفني، دون أن يراني، فسألته و بعض القلق يساورني، كأنك يا يوسف تعرفني؟ قال بلى، وهل يخفى ابن جلا! هذه صورتك التي تجليت بها لهيبا رمزا للغواية، وقد رافقتني زمنا أيام تأليف الرواية. ثم قال اجلس يا جدع، يا ملهم البدع وحتى أطفئ ما بي من الظمى، كرعت قدحا من الطلى، ثم ابتدرته سائلا: ما قولك في الكتابة يا عزيز القراء؟ قال: الكتابة شهادة بقاء، ومن يكتب ليس له من فناء قلت فما خطب العرب، وما هم فيه من نصب؟ قال ذاك لأنهم في الخبل وللاجدوى سادرون، وعن دلالة الكلمات غافلون. قلت فهلا يا صاحبنا، على أبطالهم دللتنا؟ قال: ليس الأبطال صلاح الدين وبيبرس وأصحاب المغازي، وإنما ابن رشد وابن سينا و الرازي. قلت ما رأيك بما يلقونه من بعضهم من حيف وتخويف؟ قال: دائما الضعيف، انفعاله عنيف، والسكارى بخمر السلطة، هم أصحاب النفوس المنحطة، ومن يجعل المال مناه، والسلطة والجاه، لا يكتفي مدى الحياه، كما أنه ليس في الناس نبلاء، حقيقة إلا العلماء. قلت فكيف عندهم الثقافة؟ قال هي الآن أقرب منها إلى السخافة قلت فكيف ننشئ إبداعا ساميا؟ قال لا يمكن أن تبدع فنا أو فكرا راقيا، إلا إذا كنت نوعا ما صوفيا. قلت حديثك عن فقه الحب، شيق رائع عذب، لكن ألا يقيد الحب الإنسان؟ قال بل يقيد فيه الحيوان، ويطلق لروحه العنان. قلت فما تأويل ظل الأفعى؟ قال لو كان الرجل لماهية المرأة أوعى، لرآها دوما لسعادته تسعى. قلت فما فصل المقال، في الحسن والجمال؟ عند ذلك تلألأ نور عجيب في محياه، وافترّت عن بسمة شفتاه، وقال: للجمال حضرة لا يعرفها، إلا من صار فيه. فما نبس بهذه العبارات حتى أضاء المكان، بحوريات لم أر مثلهن في الجنان، عندما كنت بالفردوس معززا مشهورا، قبل أن أنقلب ملعونا مدحورا. صبايا كأنهن الأقمار، يقلن للشمس اغربي في عز النهار، لا هن نحيلات، يابسات كالنخلات، ولا بدينات كالكرنبات، ولا شقراوات، شبيهات ببيضات مسلوقات. فعرفت منهن ماهتاب، التي لحضورها وهج يسلب الألباب، وأقبلت سندس الفاجرة النظرات، والحركات واللفتات، ذات البدن المكتنز الملزز، والوجه المليح الملوز، ثم جاءت روان وقوامها الريان، وعيناها النجلاوان، ونهداها العبقريان، فقلت سبحان الرحمان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، ثم تلتها ملونة العينين نورا، أميرة فاتنات أسوان طرا، وأسطعهن نورا، وقد اكتنز قوامها وازدانت سمرتها، حتى صارت بلونها البرونزي البراق، أكثر ملاءمة للاشتهاء والإغداق، فسبحان البارئ الخلاق، ثم جاءت تمشي على استحياء مرتا بدر البدور، التي يذهب العقل جمالها الهادئ الوقور وتبعتها باقي الحسناوات، كل تالية تنسيك السابقات. قال عزازيل: فشعرت بوهن يكتنفني مما رأيت، ودوخة تجتاحني مما اجتليت، وأحسست بركبتي، تترنحان حتى أوشك أن يغمى علي، فقمت أصرخ من الوله، فنهرني زيدان قائلا اختشي يا وله، يكفي بلبله. ونحن معشر الأباليس، نسترخص كل ما هو نفيس، في سبيل الرسالة، التي أقسمت عليها أمام ذي الجلالة، "فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلى يوم الدين"، و لكني اليوم أراني قد أنكرت هذا القسم إنكارا، وأدركت أنه صار علي عارا، فقلت في نفسي لأنكرنه، ولا أبرن به ولأجحدنه، ولا بأس بالكفاره، فأمرها من اليساره. ثم إنه بعد كلام الرجل لي، لا أدري ما جرى لي، ولو كنت إنسيا لحسبت ما بي مسا من الجنون، لكن هذا ليس إلا ضربا من الظنون، إذ أننا معشر الأباليس ليس للجن علينا سلطان، ولا ريب أنه تملكني شيطان زيدان، فما شعرت إلا و أنا جاثم عند قدميه، وأعلنها توبة نصوحا على يديه، فلا غواية بعد هذه الساعه، حتى تقوم الساعه، وتلك لعمري نهاية التاريخ بل نهاية الزمان، أن يتوب الشيطان. فيا ويلتاه من ذريتي، وأهلي وعترتي، فهم لا شك منكري، إن لم يكونوا مهلكي، وسيعلنون لا محالة الحجر علي. وإذا بي أحس قروني تضمر رويدا رويدا، وذيلي يختفي كأن لم يكن أبدا، فأجهشت بالبكاء المر حسرة على عمر ضاع في الوسوسة، وبآلاف القرون التي أمضيتها في المدرسة، حيث كنت معلما لصغار الأبالسة، ألقنهم فنون المكر والمشاكسة. ثم إني شعرت بكف غضة، رخصة بضة، تمسح رأسي بحنان، وبصوت ناعم يهتف بي خلته آتيا من الجنان: أفق يا عزازيل من الوسن، فقد تعرق منك البدن، ولا شك أنه كابوس، أم تراك أكثرت من شراب باخوس؟. قال عزازيل: فأفقت فوجدت أوكتافيا علي حانية، ودموعي قد بللت لحيتي الرمادية، تقول لا عليك إنها أضغاث أحلام، رأيتها في المنام، وسأبعث ليوسف عسى، ينبئنا بتأويلها غدا بالمسا، فاستحلفتها بأغلظ اليمين، ومني يتعرق الجبين، ألا تذكر اسم يوسف ولو إلى حين، فأجابت بمكر لك ذلك أيها الشيطان، ما دام يحوطك رضى زيدان، فشكرتها وحمدت رب العزة على السلامة، وبه تمت هذه المقامة". (*) فاعل ثقافي