يعلو صوتها حين انتقاد الحكومات المتعاقبة ويتغير خطابها حين تنتقل إلى التدبير بقلم: إبراهيم أقنسوس ثمة ملاحظة، مثيرة للانتباه، تهم المشهد الحزبي في بلادنا، مفادها أن جل الأحزاب التي يمكن أن تكون جديرة بهذا الاسم، والتي ننعتها عادة بالأحزاب الوطنية والديمقراطية، تؤكد في كل مرة، وربما منذ الاستقلال إلى اليوم، أنها أحزاب تصلح للمعارضة، ولا تصلح للحكم والتدبير، وأنها تسجل حضورها، وإن بنسب متفاوتة، حين يتعلق الأمر بانتقاد ومواجهة تدبيرات الحكومات المتعاقبة، ويعلو صوتها، ويكون له بعض الوقع، حين تجلس في صفوف الملاحظين والمعارضين، أو ما يسمى كذلك. لكن، بمجرد انتقالها إلى مستوى التدبير والتنفيذ، يتغير كل شيء، ويتحول خطابها مباشرة، إلى ألوان من التبرير والتعليل والدفوعات الباهتة التي يصعب تفهمها، ناهيك عن فهمها. والنتيجة أن معظم هذه الأحزاب، تفقد بطريقة أو بأخرى صورتها القديمة، وتتجرد تلقائيا وموضوعيا من صفتها النضالية والشعبية. ويمكن أن نسجل بلا كبير عناء، أننا إزاء حالة سياسية، تحولت مع الوقت، إلى قاعدة (إشكالية) ملزمة مفادها: أحزاب تنشط في المعارضة، وتبرر في الحكم. وطبعا، تتجه هذه الأحزاب، من موقع سلطتها التنفيذية والتدبيرية، إلى الاجتهاد في تقديم ألوان من التفسيرات والتبريرات، سعيا منها لفك هذا التضارب المربك الذي يزعجها، فتتحدث عن الإكراهات والصعوبات، وعن جيوب المقاومة، وعن أعداء الإصلاح، وعن العفاريت والتماسيح، وما إليها، وكلها أعذار وبلاغات لا تفي بالغرض، لأنها تقفز على الإشكالات الحقيقية، والتي تهم طبيعة الصلاحيات المخولة للسلطة التنفيذية، بكل مستوياتها (الحكومة، المجالس الجهوية والإقليمية والبلدية والقروية)، كما أنها لا تفصح، وربما أيضا، لا تستطيع أن تفصح عن نوع هذه الإكراهات التي تقول إنها تحول دونها ودون القيام بمهامها. وطبعا، في هذا الخضم، تضيع المصالح والقضايا الأساس للمواطنين والمواطنات. والملاحظ أنه، في كل مرة، يتكرر المشهد نفسه. أحزاب تنتقد وتعارض، بلغة لا تخلو من شدة، مجمل السياسات التنفيذية المتبعة من قبل الحكومات، ولكنها بمجرد انتقالها إلى مربع المسؤولية، تتناسى منطقها القديم، طوعا أوكرها، وتهرع سريعا إلى خطاب التبرير وأحاديث الصعوبات والإكراهات، بحيث يبدو الفرق كبيرا جدا وغير مفهوم، بين حالتها في المعارضة، وحالتها أثناء ممارسة الحكم أو التدبير. والمثير للانتباه، أن أكثر هذه الأحزاب، تقول، بلغة أو بأخرى إنها لا تحكم، وإنما تساعد، أو تنتظر، أو ما شئنا من الكلمات، ما يزيد الأمر تعقيدا وغموضا، لأن معناه مباشرة، أن مبالغ مالية ضخمة تصرف، من أجل صلاحيات مكتوبة لا تجد طريقها إلى التطبيق والتنزيل. والمقصود هنا طبعا هو الصلاحيات (الواسعة) دستوريا وقانونيا، المخولة للأجهزة التنفيذية، بكل مستوياتها. من معاني هذه الخلاصة، إذا صحت، أن الزمن السياسي عندنا يراوح مكانه، وأن دور الأحزاب عندنا، حين انتقالها إلى دائرة الحكم والتدبير، ليس واضحا، وأيضا، يصعب أن يكون واضحا. وبالنتيجة، فهذا التذبذب في التموقع وفي الصفة، ينتج تذبذبا آخر في الخطاب ثم في التدبير، أو ما يمكن أن يسمى تدبيرا. والدليل الواضح كامن في الوضع العام الذي تشهده الكثير من القطاعات الرئيسة والحيوية في بلادنا (التعليم، الصحة، الشغل، البنية التحتية...). ما يعني في النهاية، أن لدينا أحزابا تصلح للمعارضة، أو لبعض المعارضة، إذا أردنا التدقيق، ولا تفيد في الحكم. ويمكن أن نقدم دليلا، الكثير من النقاشات التي دارت وتدور بين أحزاب توصف بالكبيرة (حالة الاتحاد الاشتراكي وحزب الإستقلال إبان مرحلة التناوب، وحالة العدالة والتنمية والأحرار اليوم)، أتيحت لها ممارسة التدبير في مرحلة من المراحل، وخضعت أو أخضعت لهذه الازدواجية التي تمت الإشارة إليها، ولهذا التقابل المثير بين المعارضة والتبرير. وحين يتم اختيار غيرها، أو يتم التخلي عنها، تجد نفسها مرة أخرى مدعوة لممارسة التبرير، من خارج التدبير، تماما كما كانت تمارسه من داخله، فتفقد ما تبقى لها، إن كان قد تبقى لها شيء، ما يجعلها في حاجة إلى البحث عن نفسها من جديد، وهكذا تستمر العجلة في الدوران بالتراتبية نفسها والمنطق والنتائج نفسها، في النهاية.