ضرورة التفكير بجرأة في هندسة جديدة وذكية لنظام يقطع مع أنماط التفكير السائدة بقلم: بوشعيب الزكراوي (*) يعود أصل التفكير "خارج الصندوق" إلى لغز رياضي قديم يعرف بمسألة النقط التسع، وهو عبارة عن تسع نقط مرسومة على صفحة ومرتبة في ثلاثة صفوف، كل صف يتكون من ثلاث نقط، والمطلوب في اللغز الشهير أن ترسم أربعة خطوط مستقيمة تمر على النقط التسع دون أن ترفع القلم. إن اللغز يحيرنا لأننا عندما ننظر إلى النقاط التسع، نرى مباشرة شكلا مربعا، ولا نستطيع أن نتفادى هذا الشكل المألوف، ومعظم الناس يفترضون بلا وعي وهم يحلون اللغز، أن عليهم البقاء ضمن الصندوق المتخيل مربع الشكل، ولكن الأمر ليس كذلك، فالأمر يتطلب أن تمتد ثلاثة من الخطوط الأربعة خارج المساحة المحددة بالنقط الحدودية الخارجية، ومن هنا كانت عبارة التفكير خارج الصندوق استعارة بلاغية للتفكير خارج الأنماط العقلية الشائعة التي ننظر بها إلى هذا العالم. تدخلات جراحية متكررة مناسبة هذا الكلام جاءت في سياق الحديث عن إعادة النظر في النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية، الصادر في 10 فبراير 2003، والذي عرف تغييرات وتتميمات متكررة انطلاقا من 2004 إلى 2022، إذ بلغ مجموع التغييرات والتتميمات أحد عشر تعديلا، أي بمعدل تعديل كل سنة ونصف. ولكن رغم هذه التدخلات الجراحية المتكررة في جسم المرسوم سالف الذكر، فقد ظلت الساحة الخاصة بالأطر الخاضعة لهذا النظام لا تخبو إلا لتزيد اشتعالا وغليانا، ليتأكد بالملموس أن مهندسي المرسوم، وهم يعملون على ترقيعه، إما أنهم ظلوا حبيسي الصندوق مربع الشكل، أو أنهم كانوا مجبرين على لعب دور الإطفائي كلما ازداد لهيب الاحتقان. وعلى كل حال، فإن الجلوس مع ممثلي الشغيلة التعليمية فرصة لوضع فلسفة جديدة لنظام أساسي جديد يستحضر المتغيرات التي عرفتها المنظومة التعليمية، سواء على مستوى مداخل تكوين الأطر التربوية، أو على مستوى تقييم الأداء، أو على مستوى التوازن بين الحقوق والواجبات... وذلك وفق عدد من الموجهات. هندسة جديدة وذكية الموجه الأول: وهو موجه ثقافي، ويتعلق بعقلية نساء ورجال التعليم. وهي عقلية قياسية مقارناتية تمت تغذيتها من خلال تكريس نظام فئوي نخر الجسم التعليمي. الموجه الثاني: وهو موجه مالي ومادي. ويتعلق بالكلفة المالية والمادية المترتبة عن وضع نظام أساسي جديد. الموجه الثالث: وهو موجه إستراتيجي. ويتعلق بالرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2030 والقانون الإطار المنبثق عنها. وعلى هذا الأساس، فإن وضع نظام أساسي جديد وفق المتغيرات والموجهات المشار إليها باقتضاب أعلاه، يقتضي التفكير بجرأة في هندسة جديدة وذكية لنظام أساسي خاص بالأطر التربوية والتعليمية، تقطع وتتجاوز أنماط التفكير السائدة، أي التفكير في نظام أساسي خارج الصندوق. سأتقدم باقتراحي دفعة واحدة، بشكل مجمل وبدون مقدمات، ليكون أشبه بالصدمة العلاجية، فعالمنا لايمكن أن يتغير إذا لم تتغير نظرتنا إليه، وما لم تتغير ذواتنا لنعمل على تغييره. وأول خطوة في هذا التغيير، هو تغيير نظرتنا إلى الأسلاك الثلاثة، وأعني بها السلك الابتدائي والسلك الثانوي الإعدادي وسلك الثانوي التأهيلي، فهذه الأسلاك هي في الأصل موضوعة للمتعلم، وتأخذ بعين الاعتبار مراحل نموه وتدرجه، وليست موضوع هرم تراتبي للأستاذ أو المفتش أو المدير. صندوق الأسلاك الثلاثة إن الخروج من صندوق الأسلاك الثلاثة يقتضي منا عدم التوقف عند هذا الحد الجزئي. فأزمة النظام الأساسي الحالي الرئيسية هي التعدد الفئوي التراتبي. فهذا النظام ينظم الحياة الإدارية لسبع عشرة فئة موزعة على خمس هيآت، وهو الأمر الذي عمل على تغذية العقلية القياسية والمقارناتية لدى الشغيلة التعليمية، بل ويعتبر من الأسباب المرجعية للاحتقان الذي تعرفه الساحة التعليمية، مع ما يستتبع ذلك من تناسل يومي للمنسقيات، وتعدد اللجان الثنائية، وكثرة الحركات الانتقالية والإدارية، وتعدد أنواع الترقيات، إضافة إلى التعدد النوعي لمراكز التكوين، مركز التوجيه والتخطيط التربوي، ومركز مفتشي التعليم، والمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. ولأظل وفيا للمنهج الذي اعتمدته، وهو التقدم بالاقتراح وبدون مقدمات، فإني أرى أن يقتصر النظام الأساسي على هيأتين رئيستين فقط، هما هيأة التدريس، وهيأة الإدارة التربوية. ولعل القارئ وهو يبتسم لسذاجة هذا الاقتراح يتساءل، وله الحق في ذلك، عن مصير الهيآت الأخرى، بل الأكثر من هذا، عن مصير منظومة تربوية في ظل غياب هذه الهيآت. للجواب عن هذا السؤال، لا بد أولا أن نتعرف على الفئات والهيآت التي نقترح إسقاطها من المرسوم. وأعني بها هيأة التسيير والمراقبة المادية والمالية، وهيأة التوجيه والتخطيط، وهيأة التأطير والمراقبة التربوية. هيأة التأطير والمراقبة التربوية لا يختلف اثنان على أن هذه الهيأة تتم تغذيتها من هيأة التدريس، فهي الأصل والمرجع. والوزارة تعمل كل سنة أو سنتين على الاقتطاع من هيأة التدريس لتكوين هذه النوعية من الأطر. ولكن التجربة الميدانية أبانت أن الخصاص المهول الذي تعانيه المنظومة التربوية من أطر التفتيش التربوي، جعل هذه المهمة دون مردودية تذكر، بعدما أصبح دور المؤطر التربوي يقتصر في حالات عديدة على زيارة المقبلين على الترقية وإعداد الامتحانات، و بعض الحالات الاستثنائية التي تستدعي تدخلا عاجلا للمفتش التربوي، بل إن بعض المديريات كثيرا ما تلجأ الى استدعاء مفتش من مديرية أخرى لعدم وجود مفتش في التخصص المطلوب داخل النيابة أو الأكاديمية. وإذا كان عدد المدرسين برسم الموسم الدراسي 2019 - 2020 بلغ حوالي 252.135 مدرسا بينهم 138.057 بالسلك الابتدائي و60.374 بالسلك الثانوي الإعدادي و53.704 بالسلك الثانوي التأهيلي، فإن عدد المفتشين التربويين في الابتدائي والثانوي انخفض بشكل كبير، إذ فاقمت قلة عدد الخريجين، ومعها الإحالة على التقاعد، والوفيات، أزمة الخصاص الذي تعرفه هذه الهيأة، إذ انخفض عدد مفتشي الثانوي من 1122 في 2012، إلى 846 في 2018، بينما انخفض عدد مفتشي الابتدائي من 868 في 2012 إلى 795 في 2018، مما أثر على الدور الأساسي الذي تقوم به هيأة التفتيش. تتبع ومراقبة وتأطير ما العمل إذن؟ ما هو العدد الذي يجب أن نتوفر عليه لكي تتمكن هذه الهيأة من أن تقوم بأدوارها في تأطير هيأة التدريس والارتقاء بكفاءتها ومراقبتها في ظل الرهانات التي تطرحها رؤية 2030 والقانون الإطار المنبثق عنها، وفي ظل إكراهات المناصب المالية المخصصة للقطاع، والذي يعمل جاهدا على توفير أستاذ لكل قسم. فقد كشف تقرير مؤشرات نجاعة الأداء بوزارة التربية الوطنية عن معضلة التأطير التربوي والبيداغوجي، على أن معدل الأساتذة لكل مفتش تربوي بالسلك الثانوي بسلكيه يصل إلى 90 أستاذا لكل مفتش، بعد أن كان 87 لكل مفتش خلال العام الماضي، و188 أستاذا في الابتدائي لكل مفتش، ما سينعكس على مؤشرات التأطير وجودته، خصوصا إذا علمنا أن تحقيق الجودة التي تهدف إليها جميع الأوراش الإصلاحية، لا يمكن أن تتحقق بشكل فعلي خارج الفصل الدراسي، لأن الأساس هو أنه يجب أن يتم تتبع ما يجري داخل القسم، فلا يكفي استنطاق مؤشرات النتائج والنقط ونسبة النجاح، بل لابد من تتبع ومراقبة وتأطير العملية التعليمية داخل القسم الدراسي. ممارسة ميدانية في اعتقادي، أن مفتشا ممارسا لمهنة التدريس، وهو يقوم بمهام التأطير والمراقبة التربوية، سيكون أكثر فهما وتفهما للمشاكل والصعوبات التي يجدها المدرس أمامه، وبالتالي فإن اقتراحاته وتوجيهاته ستكون مستقاة من واقع الممارسة الميدانية. وهو الأمر الذي سيترتب عنه إغناء طرق التدريس بابتكارات جديدة وأصلية، بدل عمليات النقل والاستنساخ والاستنبات. إن المفتش الممارس لمهنة التدريس، سيوجد مقر إقامته داخل النفوذ الترابي للمديرية التي يشتغل فيها. إن المفتش الممارس لمهنة التدريس سيختفي معه مشكل الخصاص المزمن الذي تعانيه هيأة التفتيش، وستجعل من عملية المراقبة والتأطير سلوكا يوميا داخل الأقسام بدل سلوك موسمي يتغيى فقط إعطاء النقطة من أجل الترقية. بساطة البدايات كشفت مجموعة من التقارير أن أزمة جودة التعلم تتمثل في عدم إتقان التلاميد للمهارات الأساسية في القراءة والحساب واللغات، وهو ما شكل أزمة ثقة المغاربة إزاء المؤسسة التربوية العمومية وهيأتها التعليمية. وفي اعتقادي، أن نسبة مهمة من المغاربة لجؤوا إلى التعليم الخصوصي مع ما يتطلب هذا اللجوء من تضحيات مادية تثقل كاهل الأسر، مع العلم أنه يتم تخصيص ثلاثين ساعة أسبوعية لفائدة المتعلمين، ومن المفترض مع هذا العدد من الساعات، أن يتم إتقان المهارات الأساسية في القراءة والحساب واللغات على مستوى السلك الابتدائي. وبعجالة، لا أدعي أن العامل الذي سأقف عنده هو العامل الوحيد، ولكن مع ذلك أعتبره أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في خلق هذه الوضعية، وهذا العامل هو غياب التفتيش التخصصي في السلك الابتدائي، بل وأكثر من هذا، وهو المشكل عينه، هو تحميل أستاد التعليم الابتدائي تدريس عدة مواد وتخصصات بدعوى بساطة البدايات. (*) باحث في القانون الإداري