مركـب زفـزاف… جوهـرة المعاريـف

معلمة تاريخية وفنية شاهدة على تطور الحي البيضاوي الذي قطنه الإيبيريون والمتوسطيون تستعد مقاطعة المعاريف، لتنظيم حفل فني لمناسبة افتتاح مركب محمد زفزاف بالبيضاء في حلته الجديدة، بعد أن خضع لإصلاحات جذرية حافظت على مقوماته وأعادت الروح إليه مجددا. في هذا الخاص تحاول "الصباح" استعادة جوانب من تاريخ حي المعاريف في ارتباطه بهذه المعلمة التاريخية التي بدأت كنيسة لتتحول إلى مرفق ثقافي شاهد على تحولات المغرب المعاصر. خلال اللحظة التي أقيم فيها أول قداس ديني في 15 شتنبر 1918 بكنيسة المعاريف، لم يكن الأب بونافونتير كوردونيي يظن أن هذه المعلمة، التي دشنها برعاية من البعثة الفرنسيسكانية، ستصمد لأزيد من قرن من الزمان، وتشهد على تحولات الحي الذي توسطته، وشكلت جزءا من نواته وهويته المعمارية. ولم يأت تأسيس الكنيسة إلا في سياق ميلاد حي خاص بالطبقة العاملة والفقراء الأوربيين الذين استقروا بالبيضاء، مطلع القرن الماضي، وبدؤوا في تشكيل مجمعات سكنية تعكس انتماءاتهم الإيبيرية والمتوسطية، خاصة من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وأرمينيا واليونان وغيرها. من "مزاب" إلى الجاليات الأوربية كان موقع الحي الناشئ الجديد، يقع على بعد حوالي كيلومترين ونصف خارج مركز المدينة، في اتجاه طريق "مازغان"، (الجديدة حاليا)، وقريبا من مجرى وادي بوسكورة، حيث اختار بعض الأوربيين المجازفة والمغامرة بالاستقرار في أرض خلاء خارج نطاق المناطق المحمية أمنيا، ظلت تعمرها أسر وعائلات من فخذة "المعاريف" التابعة لقبائل مزاب بالشاوية، فظلت تحمل اسمها إلى يومنا هذا. كانت نواة الوجود الأوربي بهذه المنطقة التي كانت تصنف بأنها نائية، واتخذتها القوات الفرنسية بمثابة قاعدة خلفية للتحضير للعمليات العسكرية ومواجهة ردود فعل قبائل الشاوية عقب مجازر غشت 1907 التي استهدفت جزءا من سكان المدينة القديمة للدار البيضاء، هذه النواة بدأت بضيعة أوروبي ثري اختار الاستقرار هناك قريبا من الموقع الحالي لماكدونالد المعاريف، في تقاطعه مع شارع "كامي دي مولان" (المسيرة حاليا)، هذه الضيعة ستحمل في ما بعد اسم "الدار البرتغالية" وتحاذيها ساحة "دي هول" حيث يوجد حاليا مسجد المعاريف وسوقه القديم الذي سيتشكل بعد الحماية الفرنسية. وابتداء من 1911 سيختار تاجران بريطانيان هما "مردوخ" و"باتلر" اقتناء أراض وممتلكات عقارية، بالموقع الحالي، بعد أن اكتشفا أن قيمتها تقل عن 50 مرة عن قيمة الأراضي بالمدينة القديمة والمساحات المجاورة المشكلة للمركز. كانت مظاهر الحياة القروية سائدة بالمنازل الأوروبية التي بدأت تتناسل هناك، إذ تشير بعض الكتابات القليلة التي تناولت هذه المرحلة إلى اشتغال هؤلاء الأوربيين الذين غامروا بالاستقرار بعيدا عن وسط المدينة ، قاطنين في أكواخ خشبية، ومقتطعين بعض الأراضي للزراعات المعيشية، مستغلين قربهم من مجرى الوادي، ووفرة العيون المائية والمياه الجوفية، ومفتقدين لأدنى مقومات الحياة العصرية. ويتحدث الباحث نور الدين فردي في كتابه "الدار البيضاء: التحولات الإدارية والاقتصادية والعمرانية" عن تزايد توافد الأوربيين على الدار البيضاء، في بداية القرن، وتحديدا خلال السنوات التي سبقت الحماية مباشرة أو بعدها، إذ ارتفع عددهم سنة 1913 إلى ما يفوق 20 ألف نسمة من أصل 60 ألف وكانت المدينة تستقبل ما بين 1500 معمر و2000 في الشهر. ويضيف فردي أنه اختلفت نوايا الأوروبيين القادمين إلى الدار البيضاء، رغم أن هدفهم واحد، هو الحصول على الثروة، فإذا كان الفرنسيون والانجليز والألمان جلبوا معهم رؤوس أموال من أجل استثمارها، خصوصا في المجال العقاري، إضافة إلى الصناعات التي ظهرت والمرتبطة بحركة البناء والصناعات الغذائية، فإن الإسبان والإيطاليين والبرتغاليين كانوا يعتمدون على ما راكموه من خبرة في بعض الحرف والصناعات، وأصبحوا بذلك يحصلون على أجور مرتفعة مقارنة بالعمال المغاربة، وساعدتهم على ذلك الحاجة إلى يد عاملة متخصصة في البناء. وفي هذا السياق يشير الباحث حسن أمرير إلى أن حي المعاريف عرف خلال الفترات الأولى لإحداثه، استقرار جاليات أجنبية متنوعة المشارب، إذ تشكلت تركيبته السكانية من العمال والموظفين الأوربيين محدودي الدخل خاصة الاسبان والإيطاليين الأكثر هشاشة، ومعظم هؤلاء الوافدين الجدد مقاولون صغار أو عاملون في مجال البناء، إذ تعتبر الجالية الإسبانية ثاني أكبر جالية بعد الفرنسيين، وعمل أفرادها في البناء والصيد وإصلاح السيارات، في ما بعد. كنيسة جورا... نقطة التحول وعنوان الهوية ويرى الباحث في التاريخ المعاصر أن لحظة بناء الكنيسة فوق بقعة أرضية مخصصة لإحداث مركز ديني من قبل المقاولين "مردوخ" و"باتلر"، كانت محطة مفصلية في تاريخ الحي، إذ أصبحت بمثابة نقطة محورية للحي، وبيعت البقع الأرضية على التصميم قبل الإنجاز إلى شركات متخصصة في المعاملات العقارية من قبيل شركة racine P H L والتي ستحمل أجزاء من الحي اسمها. وساهم الوسط الفقير الذي يتحدر منه أغلب سكان الحي خاصة في بروز أشكال من التضامن والأنشطة الخيرية والإحسانية المرتبطة بالبعثات الدينية والتبشيرية، وهو ما ساهمت فيه بشكل كبير الكنيسة التي شيدت في وسط أغلب سكانه أوربيون كاثوليكيون، الشيء الذي جعل الحي مسرحا لمختلف الأعياد الدينية والطقوس والمهرجانات الاحتفالية التي ترافقها، وكانت تقام بالأزقة والفضاءات المجاورة بما فيها زنقة "جورا" الشهيرة التي تحتضن هذه المعلمة. ظلت الكنيسة تقوم بأدوارها الدينية سنوات عديدة بعد استقلال المغرب، قبل أن تنحسر أعداد الجاليات الأوروبية التي كانت تقيم بالحي، وترتفع الحاجة إلى إقامة الشعائر الدينية بهذا الفضاء، وتتبدل التشكيلة الديمغرافية للحي بشكل تام، بعد أن عوضهم السكان المغاربة. معلمة مشاهير الثقافة والفن ويقول الكاتب والصحافي عبد الرحيم التوراني، إنه يتذكر في طفولته طبيعة الأنشطة التبشيرية التي كانت تقوم بها البعثات التبشيرية تحت غطاء العمل الخيري والإحساني والتطبيب خاصة أنه كان هناك مستشفى خاص بالراهبات، ستتحول بنايته إلى مقر مقاطعة المعاريف حاليا. ويضيف التوراني، في حديث مع "الصباح"، أن الكنيسة ظلت تقوم بأدوارها إلى حدود نهاية الستينات وبداية السبعينات، قبل أن يتم إغلاقها، وكان التفكير في ما بعد إلى تحويلها مسجدا على غرار مجموعة من الكنائس بالبيضاء، إلا أن الفريق الاتحادي الذي كان يقود المجلس انتصر لاختيار تحويلها مركزا ثقافيا سيكون شاهدا على مجموعة من الأنشطة واللحظات الثقافية والفنية المميزة. وفي هذا السياق يقول مصطفى بودرا، رئيس مصلحة الشؤون الثقافية بمقاطعة المعاريف وأحد الموظفين المخضرمين بها، إن افتتاح المركب الثقافي تم سنة 1989 باعتباره تجربة أولى وفريدة من نوعها على الصعيد الوطني في إطار إستراتيجية واهتمامات المجلس الجماعي للقيام بأدوار ثقافية قوية ورائدة ضمن الفلسفة العامة لتدبير الشأن المحلي. وأضاف بودرا، في حديث مع "الصباح"، أن إنجاز هذا الفضاء شكل منذ نشأته معلمة فنية عززت الحقل الثقافي بفنونه وآدابه وعلومه وساهمت في تنشيط دواليب الحركة الثقافية سواء بالنفوذ الترابي للجماعة بصفة خاصة والدارالبيضاء بصفة عامة ليتجاوز إشعاعها المستوى الوطني لاهتمامها بميادين لها علاقة بالثقافة بمفهومها العام سواء تعلق الأمر بالمسرح والموسيقى والندوات والفنون التشكيلية وغيرها. وهنا يستعيد عبد الرحيم التوراني جزءا من ذكرياته الثقافية مع هذه المعلمة، والشخصيات التي مرت منها، إذ يتذكر محاضرات لمثقفين ومفكرين من قبيل المفكر اللبناني الراحل سهيل إدريس والشاعر المصري محمد عفيفي مطر والشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي والزعيم الجزائري أحمد بن بلة، فضلا عن المفكرين والسياسيين المغاربة أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله إبراهيم، إضافة إلى فنانين ظلوا مرتبطين بهذه المعلمة مثل الطيب الصديقي وثريا جبران، دون الحديث عن الأنشطة الحزبية والجمعوية التي احتضنها. كما أن محيط المركب الثقافي للمعاريف، شهد شخصيات أدبية استقرت بالقرب منه، منهم الراحل محمد زفزاف الذي يحمل المركب اسمه بعد رحيله في 2001، وأسماء أخرى منها من ستحمل بعض الأزقة بالمعاريف أسماءهم من قبيل أحمد الجوماري والبشير جمكار، وآخرون ارتبطت أسماؤهم بهذا الحي منهم الراحل إدريس الخوري وعبد الكريم برشيد والقاص علي الأجديري وغيرهم. تصميم شطرنجي وبيوت واطئة صممت أزقة حي المعاريف، بطريقة شطرنجية صارمة، ولم تكن في البداية موصولة بشبكة الماء والكهرباء إلى حدود 1916، إذ ظلت معروفة ببناياتها الواطئة وشرفاتها. وخلال هذه المرحلة، يقول أمرير، أصبح ضروريا إعادة هيكلة حي المعاريف، ما أدى إلى وضع مشروع تصميم تهيئة، إلا أن إنجازه كلف كثيرا بحكم غياب الدراسات التقنية والفنية اللازمة، خاصة منها المرتبطة بدراسة التربة والمياه الجوفية، كما أن إنجاز المشروع كان يستلزم شق العديد من الطرق والمدارات. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1927 و1933 تشكل النسيج الحضري والعمراني لحي المعاريف، غير متأثر في ذلك بالأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، لذلك ظل هذا الحي لفترة منفصلا عن مركز المدينة ومستقلا عنه لمدة طويلة، وعرف توسعا ملحوظا بظهور مجموعة من الأحياء المجاورة، كما تطورت تركيبته العمرانية بشكل مناقض حيث المنازل الصغيرة والعمارات منخفضة الارتفاع والشرفات والأسطح والمدرجات، لتتوزع أنواع المباني التي تتخلل الحي إلى ثلاثة هي المنازل بفناءات والفيلات والعمارات الواطئة بطوابق محدودة. مرشد: إعادة ترتيب موقع المعاريف ثقافيا كشف عبد الصادق مرشد، رئيس مقاطعة المعاريف، عن بعض تفاصيل الحلة الجديدة للمركب الثقافي محمد زفزاف. وأعلن مرشد قرب إعادة استئناف الأنشطة الثقافية بهذا المركب، ابتداء من الأسبوع المقبل، بعد إغلاق دام ست سنوات من أجل إعادة تهيئته مع المحافظة على واجهته وهيكله المصنف ضمن التراث الثقافي المغربي، إذ بدأت الأشغال به في نونبر 2018 وتم الانتهاء منها في 2021 ، وعرف هذا المركب إصلاحات جذرية و كبيرة لجميع مرافقه. وتم تجهيزه بأحدث تقنيات السمعي البصري، في مجال التنشيط الثقافي وقاعة عروض والإضاءة وقاعات أخرى لتدريس مختلف الفنون من موسيقى ورقص ومسرح وفنون درامية وغيرها. وتحدث مرشد عن الرغبة التي تقود المجلس الحالي لإعادة ترتيب موقع مقاطعة المعاريف ومن خلاله مركب محمد زفزاف بحمولته التاريخية والرمزية في الخارطة الثقافية والفنية لمدينة البيضاء، وكذلك تكريم مختلف الفاعلين والمسؤولين الذين تعاقبوا على تركيز الفعل الثقافي من خلال التظاهرات الكبرى التي كانت منطلقا لحركية فنية أبرزها "رمضان المعاريف" و"ربيع المعاريف".

مركـب زفـزاف… جوهـرة المعاريـف

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جماعات في ورطة الصفقات السرية

حرب صلاحيات بسبب "فرصة"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات