معنينو قال إننا دخلنا عصر المنافسة دون أن نعد لها قال محمد الصديق معنينو إن التقييم الموضوعي لعمل التلفزيون المغربي في ذكرى تأسيسه الستين، يقتضي استحضار سلبياته وإيجابياته لأخذ الدروس لبناء المستقبل. كما تحدث الإعلامي والمسؤول التلفزيوني السابق عن مفهوم الرقابة بين الأمس واليوم، وجوانب من ذكرياته المهنية وبعض طرائفه مع الراحل الحسن الثاني وإدريس البصري وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي. أجرى الحوار: عزيز المجدوب/ تصوير (عبد المجيد بزيوات) < تلقيت دعوة من قبل المشرفين على برنامج «نقطة إلى السطر» الذي يبث على القناة الأولى، لمناسبة مرور ستين سنة على إنشاء التلفزة المغربية، باعتباري واحدا من روادها، وفعلا ذهبت إلى مقر التلفزيون واستقبلت استقبالا جيدا، ودخلت إلى الاستوديو الذي لم أدخله منذ حوالي 30 عاما، إذ أحيت في هذه اللحظة ذكريات عن ماض مهني جميل قضيته هناك، وبدأنا في تسجيل الحلقة ليتضح لي أن الأفكار التي كنت أعبر عنها لم تكن تروق طاقم البرنامج . < تحدثت عن مجموعة من الأفكار والمقترحات وأيضا الانتقادات حول طريقة اشتغال التلفزيون خاصة أن الأمر يتعلق بتقييم موضوعي لستين عاما من عمل التلفزيون بالمغرب، سيما أنني ابن هذا الجهاز وأي انتقاد يمكن أن أوجهه له فأنا معني به بالدرجة الأولى ولي حظ منه لأنني كنت واحدا من المشتغلين فيه لعقود طويلة، وراكمت فيه ما يكفي من الخبرة والتجربة لأبدي ملاحظات حول أسلوب اشتغاله، خاصة أن الظروف تغيرت وبتنا في زمن المنافسة، وكنت وأنا أتحدث أشعر بأن كلامي على غير هوى المشرفين لدرجة أنني مازحتهم قائلا إياكم أن تحذفوا شيئا من تصريحاتي، لكن بعد بث الحلقة اكتشفت أن مزحتي صارت حقيقة, وأن جل ما قلته قد خضع لمقص الرقيب وتم الاحتفاظ فقط بالأشياء الإيجابية التي تصب في سياق ما يريدون قوله من خلال هذه الاحتفالية وهو أن التلفزيون المغربي أحسن تلفزيون في العالم. < مسألة الحذف في التسجيل التلفزيوني مسألة عادية لكن على أساس أن يتم إخبارك بالموضوع وأخذ إذن الضيف، وليس ممارسة التعسف على أقواله وإظهارها بعكس ما كان يقول، وعندما نقوم بتقييم موضوعي للتلفزيون لابد أن نذكر ما هو إيجابي وما هو سلبي لأخذ الدروس والعبر لبناء المستقبل وتطوير الأداء الإعلامي، أما إذا كان الاحتفاء والتقييم معناه بأن كل شيء ممتاز وفي مستوى الكمال فلا حاجة لهم باستدعائي. < كانت مجرد ملاحظات بسيطة، إذ لم أتحدث عن شيء محظور فأنا إعلامي ومسؤول تلفزيوني سابق وأعرف حدود الكلام، فمثلا ما الذي يمكن أن يضر التلفزيون المغربي إذا قلت إن النشرة الجوية التي كنا نقدمها منذ منتصف الستينات لم تتغير أو تخضع لتحسينات، أو أنه كان على التلفزيون المغربي إيفاد مراسل إلى أوكرانيا لتقريب المشاهد مما يجري، أو فتح مكاتب في أكبر العواصم العالمية من أجل التعريف بالسياسة والمواقف المغربية، باختصار أن التلفزيون عليه خوض تحديات أكبر والدخول في منافسة مع محيط إعلامي يتطور بشكل سريع. < الرقابة التي كانت في التلفزيون تتلخص في عدم استدعاء المعارضة التي كانت ممنوعة بقرار حكومي، وليست قرار مدير التلفزيون أو أي صحافي عامل به، لا استضافة ولا تغطية لأنشطة باستثناء حالات خاصة تتعلق بالمؤتمرات أو الاستحقاقات الانتخابية تكون هناك فرص للمعارضة للمشاركة والظهور التلفزيوني، وسبق لي أن ترأست لمدة عشر سنوات جميع اللجن التي كانت تضم ممثلي جميع الأحزاب السياسية لتقسيم الوقت الضروري لمرور كل حزب في التلفزيون. < إذا لم يكن لهذه الشخصيات بعد سياسي ولم يكن فيها قرار حكومي فالتلفزيون كان يستضيفها، وربما لم تكن للتلفزة المغربية، وأنا كنت ضمنها، الجرأة في بعض الأحيان لطرق بعض المواضيع، لكن هذا لا يعني الإغلاق الكلي، فمثلا عندما تأسست القناة الثانية، نهاية الثمانينات، كانت أوامر الراحل الحسن الثاني بفتح هذه القناة أمام المعارضة، لدرجة أنه كان يمكن أن تمر شخصية ممنوعة بالقناة الأولى لمدة أزيد من ساعة ونصف، وهذا كان بمثابة قرار سياسي له أبعاده وخلفياته، بمعنى آخر أن الرقابة كان لها طابع سياسي بالدرجة الأولى. < مفهوم «سنوات الرصاص» لم يكن مختصا بالتلفزيون، بل كان في المغرب بأكمله، إذ كان هناك صراع على الحكم، بين مجموعات وتنظيمات تريد إسقاط النظام ودفاع النظام عن نفسه، ووسط هذا الصراع كانت هناك تجاوزات من الجانبين، خاصة من قبل أجهزة الأمن المغربية، والتلفزيون لم يكن سوى جزء بسيط وسط كل هذا، والأمور كانت واضحة بالنسبة إلى المشتغلين في التلفزيون بخصوص بعض الشخصيات التي كانت ممنوعة من الظهور تلفزيونيا، وشخصيا سبق لي أن استدعيت شخصيات من المعارضة وعانيت بسبب ذلك كثيرا. < أذكر أنه عندما ألحق وزير الداخلية الراحل إدريس البصري قطاع الإعلام إلى وزارته، أواسط الثمانينات، وخلال الاجتماعات في السنة الأولى كنت أوجه انتقادات لاذعة للطريقة التي كانت تقدم بها نشرة الأخبار في التلفزة المغربية، بحضور أطر الوزارة التي تولت هذا القطاع وجلها عمال وقياد وولاة، وكان البصري ينصت إلي وتارة يعطي الانطباع بأنه لا يسمع، وفي أحد الأيام كان في حالة توتر في اجتماع بمنزله بحضور المدير العام للتلفزة، أعدت الملاحظات نفسها، فأصدر تعليماته بتوجيه رؤساء تحرير النشرة الإخبارية إلي بمقر وزارة الإعلام لأشرف بشكل مباشر على النشرة، وصادف أن أول تجربة تزامنت مع ارتفاع ثمن المحروقات، فاقترحت عليهم طريقة مغايرة لمعالجة الموضوع عبر ربورتاج ميداني تم فيه الاستماع إلى جميع الأطراف المعنية بالموضوع بدءا من محطات توزيع الوقود، لكن الربورتاج أثار حفيظة مسؤولي الداخلية, خاصة بعد التفاعل الإيجابي لصحف المعارضة مع التغيير الذي طرأ على نشرة الأخبار في التعاطي مع الموضوع، فكانت النتيجة هي إعطاء التعليمات بإقبار التجربة في مهدها. في البدء كانت الترجمة < التحقت بالتلفزيون سنة 1966 وأصبحت موظفا به بعد ثلاث سنوات، إذ جاء التحاقي بالصدفة بعد أن علمت عن طريق صديق أنهم يبحثون عن مترجم لمساعدتهم في ترجمة البلاغات والقصاصات الإخبارية، فقصدت مقر التلفزيون الذي كان بالطابق الرابع للمسرح الوطني محمد الخامس، وكنت حينها أتابع دراستي بكلية الحقوق وفي الوقت نفسه أزاول مهنة التدريس، وبسهولة تم قبولي مترجما أشتغل ليلا وبالنهار أمارس بقية أنشطتي، إذ لم يكن في حسباني أنني سأكون يوما إعلاميا تلفزيونيا، رغم أنني كنت مأخوذا ببعض الوجوه الإعلامية التي ظهرت مبكرا مع ميلاد التلفزيون، الذي شاهدته لأول مرة بأحد مقاهي الحي بسلا، أبرزهم الراحل الطاهر بلعربي الذي استفدت منه كثيرا رفقة آخرين. أول مرور تلفزيوني < في أحد الأيام قصدت مقر التلفزيون صباحا لتسلم المواد التي أترجمها ليلا، وصادف ذلك يوم عيد، فوجدت مدير التلفزيون في حالة توتر بعد أن تغيبت إحدى المذيعات وكانوا بصدد بث مراسيم صلاة العيد، فما كان منه إلا أن طلب مني أن أعوضها، ففوجئت للأمر وأخبرته أنه لم يسبق لي أن قدمت شيئا، فأمرني قائلا بأن لا أخاف شيئا وأنهم سيلقنونني الجملة الافتتاحية التي سأقولها بمجرد ما أرى المصباح الأحمر منارا، وهكذا اجتزت أول اختبار تحت الضغط بنجاح فكانت بدايتي مع التقديم التلفزيوني. الحسن الثاني والنافورة < كان ذلك في مارس 1973، بعد مرور أزيد من عشر سنوات على تأسيس التلفزيون سنة 1962، كان البث فيها مقتصرا على الأبيض والأسود ومحاولة توسعة تغطية البث ليشمل أكبر عدد من المناطق والأقاليم بالمغرب، وكان أول نشاط سينقله التلفزيون بالصيغة الجديدة هو خطاب عيد العرش الذي ألقاه الراحل الحسن الثاني من قصر فاس، وكلفني المدير العام للتلفزيون بمرافقة التقنيين الفرنسيين المكلفين بوضع آلات التصوير في القصر الملكي، والتي جلبت من فرنسا لأننا لم نكن نتوفر عليها هنا. أعطيت الأوامر بتسهيل مهمتنا فأدخلنا إلى «دار الفاسية»، وهي دار مغربية تقليدية وسط القصر الملكي، اختار الملك أن يسجل فيها خطاب العرش. قبالة مكتبه توجد طاولة عليها جهاز تلفاز، كان الملك يشاهد من خلاله صوره وهو يلقي خطابه. أزيل هذا التلفاز بطلب من المخرج الفرنسي. ثم طلب أن يغير موضع مكتب الملك ليتناسب مع زاوية التصوير. أجابه المخازنية بأنهم لا يستطيعون تغيير موقع مكتب الملك، فاقترح عليهم أن تتم إزالة نافورة كانت تقع وسط الدار. افترض المخازنية أن لا بأس في ذلك ما دام الملك أمرهم بتسهيل مأموريتنا، فشرع أحد العمال في هدم النافورة، ولم يكن أحد يعلم أن الملك ينام في إحدى غرف الطابق العلوي مباشرة فوق بهو الدار. فوجئ به الجميع يطل علينا بملابس النوم وهو يصرخ غاضبا بوقف ضربات المطرقة الحديدية التي كانت أصداؤها تهز أركان البيت. توقف الهدم، أرجعت الطاولة والتلفاز حيث كانا، واضطر المخرج لتغيير موقع الكاميرات… فقال له الملك بالفرنسية «دير خدمتك وأنا ندير خدمتي». طلاق بين النخبة والتلفزة < الذي حدث هو أننا دخلنا عصر المنافسة دون أن نعد لها أو نتفاعل معها، بالأمس كنا بضعة أشخاص نقدم فقراتنا في ساعات محدودة لا تتجاوز الست، لدرجة أنه كنا نجوما رغم أنوفنا إذ لم يكن للمشاهد المغربي خيار آخر غير مشاهدتنا، واليوم نحن أمام خيارات لا محدودة أمام المتلقي، وهو الأمر الذي لا يريد مسؤولو التلفزيون حاليا أن يقتنعوا به، خاصة عندما نشاهد المغاربة يبحثون عن أخبار بلدهم في القنوات الأجنبية، فمعنى هذا أن هناك طلاقا بين النخبة والتلفزة، وهنا أدعو إلى فتح ملف التلفزيون المغربي للنقاش العمومي، فهذا الجهاز لم يعد في مستوى المغرب الجديد. يجب أن يعاد النظر في أسلوب اشتغاله وأن تدخل إليه عقول جديدة وليس معدات تكنولوجية متطورة فقط، وأن يكون هناك انفتاح على جميع الحساسيات والإنصات لما يعتمل في المجتمع المغربي ونبضه الفني والموسيقي والثقافي والفكري والجمعوي، بدل الانكفاء على الذات واجترار أسطوانة أننا الأفضل. عندما أكتب أحيا < عندما أكتب أحيا، وعندما أتوقف عن الكتابة سأموت. بعد أن تقاعدت من الإعلام غادرته وأنا مرهق صحيا ونفسيا، وأمضيت حوالي سنتين وأنا أحاول التخلص من التوتر الذي عشته لأبحث عن الراحة والوقت الجميل مع الأبناء والأحفاد، لكن في لحظة ما استفقت، وشعرت أن موعدي مع الموت يقترب، فروادتني فكرة الكتابة والتأليف والإمساك بأشياء تكاد تنفلت وتندثر، وهكذا جاءت المؤلفات التي أصدرتها أخيرا. في سطور - من مواليد 1944 بطنجة. - حاصل على الإجازة في الحقوق بالرباط. - التحق بالتلفزيون المغربي منتصف الستينات. - أنجز تغطيات إعلامية لمحطات تاريخية منها المسيرة الخضراء ومؤتمرات القمم العربية والإفريقية، كما حضر عددا من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة. - شغل لسنوات طويلة منصب وكيل وزارة الإعلام ومدير التلفزيون. - له العديد من المؤلفات منها: "الحاج أحمد معنينو.. المجاهد" و"سلا في القرن السابع عشر.. جمهورية القراصنة" و"السلطان والأسير" و"أيام زمان" في ستة أجزاء.