المحمدية… مدينة الزهور والأزبال

مظاهر الترييف تغزو المدينة والباعة المتجولون يعلنون دولتهم المستقلة بها لم يعد يكفي المحمدية ما تعيشه من التلوث الصناعي الذي مس هواءها وشواطئها، طيلة عقود، منذ تحولها إلى مدينة صناعية، بل طال خلال السنوات الأخيرة حتى شوارعها وأزقتها، بل وأحياء بكاملها صارت غارقة في الأزبال، وحجت إليها جحافل الباعة المتجولين التي حولت مدينة الزهور التي كانت في ما مضى قبلة للمشاهير وعشاق الرياضات الأنيقة، إلى امتداد طبيعي للمجال القروي المحيط بها الذي نقل إليها سلبياته. غزت مظاهر الترييف المدينة، وصارت الحيوانات الأليفة والضالة جزءا من الإكسسوار الذي يزين أحياء المدينة التي غرقت في الأزبال وتردت بنيتها التحتية بشكل يبعث القلق على حاضر مدينة أطلق عليها الراحل محمد الخامس اسمه بديلا عن اسم "فضالة" الذي كانت تحمله، ويطرح أكثر من تساؤل حول ما يجري بها. للمحمدية مظهر خادع، يكاد ينطلي لأول وهلة على كل وافد عليها، فبمجرد ما يتوجه الزائر الخارج من محطة القطار نحو الجهة الشمالية الغربية لـ"مدينة الزهور" يعتقد أن المدينة تستحق فعلا هذا اللقب الذي أطلق عليها، إذ الهدوء يلف هذا المجال المندرج ضمن ما يسمى "المحمدية السفلى"، حيث تتمركز العديد من الأحياء المجاورة للشريط الساحلي، والتي تمتاز بمجالاتها الخضراء وإقاماتها وفيلاتها الفاخرة، تدخل إلى النفس الشك في أن يكون كل ما قيل عن تلوث هواء المحمدية مجرد مبالغة. لكن ما أن ييمم المرء وجهه شطر الجهة العليا، أو الجنوب الشرقي للمدينة الموجود خلف السكة الحديدية، وتحديدا بحي "العاليا" حتى يصطدم بواقع آخر، يكشف الوجه الحقيقي للمدينة التي بات أكثر من نصف أحيائها يعيش على وقع الفوضى، وتهالك بنياتها التحتية وانتشار الأزبال والروائح الكريهة التي خلفها الغزو المنظم والممنهج للباعة المتجولين الذين لم تفلح الحملات والحروب الدونكيشوتية التي شنتها السلطة ضدهم في استرجاع الفضاءات المستولى عليها حتى عادوا إليها من جديد. ساحة مسجد مالي... إمارة الباعة بالساحة المحاذية لمسجد "مالي" الذي يشكل مركز حي "العاليا" بالمحمدية تنتصب إمارة الباعة المتجولين التي لم تفلح كل مجهودات السلطات المحلية، خاصة على عهد العاملة السابقة فوزية إمنصار، في إسقاطها. وهي الإمارة التي دافع عنها ممثلوها حد المواجهة مع السلطة والدخول معها في اشتباكات يدوية من أجل انتزاع "الحق" في غزو الملك العمومي والاستيلاء عليه.تبدو الساحة التي تتخللها حديقة عمومية تهالكت مرافقها وتقادمت أسوارها القصيرة التي تحيط بالأعشاب النابتة فيها بعشوائية والأشجار المغروسة فيها، أشبه بسوق قروي مفتوح على العراء. حركة دائبة وأصوات الباعة الذين اصطفت "فرّاشاتهم" تمزق سكون الحديقة التي يبدو أن روادها تآلفوا مع واقع الساحة ووضعها الجديد. أطفال يمرحون ويلاحقون بعضهم البعض وسط الممرات الضيقة والفرجات بين "الفرّاشات" وطاولات الباعة المتجولين التي تعرض فيها سلع وبضائع متنوعة من الملابس إلى الأواني المنزلية والمعدات الإلكترونية ومواد التنظيف، وما لا حصر له من السلع المتنافرة التي تتجاور فوق "الفرّاشة" الواحدة أحيانا. ولكي تكتمل طقوس بدونة الفضاء وترييفه، ارتأى بعض "الحلايقية" اقتطاع جزء منه لاستقطاب زبائنهم. حلقة مشكلة هنا حول عازف "وتار" يردد أغاني قديمة بصوت أجش، وأخرى هناك حول طبيب شعبي يعد المتحلقين حوله بشفائهم من كل الأمراض التي يعانونها، خاصة الأمراض الهضمية أو "البرودة" والضعف الجنسي، وغيرها من المشاكل التي تدغدغ مشاعر زبائنه. التجار الشرعيون... للكساد يستسلمونووسط الزحمة التي شكلها "سوق ساحة مسجد مالي" كاد سكان حي "العاليا" ينسون أن هناك قيسارية ما زالت صامدة هناك منذ أربعينات القرن الماضي هي "قيسارية دوشمان"، قبل أن يحكم عليها الباعة المتجولون بالموت السريري، ويغرق تجارها في الكساد بسبب المنافسة الشرسة لزملائهم الجائلين الذين تحولوا مع مرور الوقت إلى قارّين بعد أن وزعوا عرفيا في ما بينهم الفضاء الخارجي المحاذي للقيسارية."كاع الحلول جربناها مع هاذ الناس.. ما خلينا تا باب دقيناه ولا شي مسؤول شكينا عليه لكن بلا فايدة.. هانتا كاتشوف أخويا هاذ الفوضى" يقول أحد تجار القيسارية الغارقة في هدوء الكساد، وكأن لا صلة تربطها بالحركية والضجيج المحيطة بجنباتها من الخارج.ويضيف "هاذ الباعة المتجولين ولاّو مخرّجين عينيهم ف السلطة وشادين بلايصهم صحة" ثم يشير إلى باحة القيسارية التي تتوسط مجموعة من المحلات التجارية التي يبدو أن باعتها استسلموا لخدر الكساد، "شوف غير هاذ القيسارية كيف ولات حالتها واخا كانخلصو الضرائب لكن تهلكنا ما بقينا بايعين ما شاريين". ودخل تاجر آخر على الخط لما لاحظ زميله يتحدث بانفعال عن الوضع المزري الذي باتوا يعيشونه في السنوات الأخيرة، ليؤكد أن تجار "قيسارية دوشمان" المنضوين منهم تحت إطار جمعية مهنية تمثلهم، سبق لهم أن فتحوا قنوات الحوار مع السلطات المحلية بشأن المصير الذي آلت إليه القيسارية التي تجمعهم بسبب انتشار الباعة المتجولين، وأعطيت لهم وعود كثيرة، بل طلبت منهم تنفيذ مجموعة من الالتزامات من جانبهم منها إصلاح محلاتهم، وإعادة تهيئتها من جديد، على أن يكمل الطرف الآخر بقية المهمة ويعيد إلى القيسارية ألقها وازدهارها، بإخلاء المجال المحيط بها، لكن لا شيء من ذلك حصل يقول التاجر.ويردف "هاذ الباعة المتجولين ولاّو غالبين السلطة اللي حارت معاهم"، مؤكدا أن "البلايص قدام الجامع ولا كايتباعو وكايتكراو" وأن المجال أصبح متحكما فيه من طرف لوبيات تنتفع من الفوضى ومن مصلحتها استمرار الوضع على ما هو عليه. باعة "أحرار" في شارع "الحرية" غير بعيد عن "قيسارية دوشمان"، ودائما بالمجال المحيط بمسجد مالي، خاصة من الجهة المحاذية لشارع "الحرية" تظهر للعين مظاهر "التعذيب" الذي يتعرض له المجال العام بمدينة الزهور، التي أضحى سكان هذا الجزء منها، يتنفسون الروائح الكريهة المنبعثة من الأزبال التي أغرقت الشارع والأزقة المتفرعة عنه، بفعل مخلفات بائعي الخضر والفواكه لهذا الفضاء، وتقاعس المسؤولين المحليين عن احتواء الوضع."هاذ شارع الحرية باين لي اسم على مسمى، حيت الباعة المتجولين واخذين فيه الحرية تاعهم ودايرين السيبة"، علق أحد قاطني حي "العاليا" وهو يشير إلى الفوضى التي تجتاح الشارع، الذي لم يعد فيه مكان لعبور الراجلين، فكيف الأمر بالسيارات بعد أن احتلت طاولات "الخضّارة" وباعة الفواكه جل مساحة الشارع، فيما زادت الأمطار في صعوبة المشي على أرض الشارع التي امتزجت فيها الأوحال بالفواكه والخضر الفاسدة التي يرميها الباعة هناك. وفي ركن من شارع الحرية، خاصة في الجهة الموجودة خلف مسجد مالي، اتخذ باعة المتلاشيات أماكنهم هناك، ولم يعد بإمكان القاطنين هناك أن ينعموا بالهدوء الذي كان يميز هذا الفضاء. وجوه وسحنات من مختلف الأعمار، بعضها يحمل ندوبا على الخد أو الجبين من أثر المشاجرات والاشتباكات، يعرضون بضاعتهم على الأرض، بعضهم لا يجد حرجا في استنشاق هواء أكياس "السيلسيون" ويساوم، في الوقت نفسه، زبناءه بعينين نصف نائمتين، ويحاول إقناعهم بأن "البياس" الذي يعرضه "حر" (أي أصلي)، أما اللصوص، فقد وجدوا في زحام هذه الجوطية مرتعا خصبا لاختبار مهارات أصابعهم وخفتها. وامتد احتلال الباعة للفضاء المتفرع عن شارع الحرية، إلى حد الجلوس أمام مدخل باب حمام نسائي، ما سبب حرجا لمرتاداته اللواتي فضلت كثير منهن تفادي ارتياده من جديد. وما يعيشه هذا الجزء من المحمدية ينطبق على جل الأحياء الموجودة بالضاحية الجنوبية لها، ما يؤشر على أن المدينة تعيش وضعا مختلا جعل "عاليها" أسفلها وحاضرها يذرف الدمع على ماضيها. عزيز المجدوب

المحمدية… مدينة الزهور والأزبال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تزايد الظاهرة الإجرامية بالدائرة الاستئنافية بوجدة

جودة التعليم...المغرب في ذيل الترتيب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات