لكحل قال إن فتاوى التكفير ضد منطق التاريخ وصيرورة المجتمعات قال الباحث سعيد لكحل إن عقائد التكفير والكراهية والتحريم لا تميز بين المناسبات. وأضاف الباحث في قضايا الإسلام السياسي أن غاية هذه العقائد هي تحريم الفرح وتحريم التعبير عنه. ومناسبة رأس السنة الميلادية ليست سوى مناسبة يستغلها حملة عقائد التكفير لنشر الكراهية والعداء، كما تحدث عن علاقة المغاربة بثقافة الاحتفال وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي. أجرى الحوار: عزيز المجدوب مع اقتراب رأس السنة الميلادية يتجدد الخطاب الأصولي الداعي إلى مقاطعة وتحريم الاحتفال بها، ما سر استمرار هذا النوع من الخطاب؟ مسألة الاحتفال برأس السنة الميلادية لم تكن مطروحة في المغرب من الناحية الفقهية إلى نهاية سبعينات القرن العشرين. فالمغاربة اعتادوا على الاحتفال بهذه المناسبة وبمناسبات أخرى دينية ووطنية دون البحث عن الحكم الشرعي. ذلك أن الشعب المغربي المتشبع بثقافة التسامح والفرح يخلق المناسبات للفرح وللترويح عن النفس بعد موسم الحصاد أو جني الثمار. ولا ننس أن المواسم الاحتفالية الشعبية التي تُقام عند كثير من أضرحة الأولياء الصالحين هي فرصة للفرح والاحتفال جعل منها الناس موعدا سنويا يتفرغون فيه للاحتفال. هكذا كان المغاربة عبر التاريخ إلى أن اجتاحت عقائد التحريم والتكفير الوهابية مقرونة بإيديولوجية تنظيم الإخوان التي فتنت شعوب الشرق الأوسط في دينها ودنياها ومزقت نسيجها الثقافي والمذهبي. ومعلوم أن الوهابية والسلفية التكفيرية تتخذ من فتاوى ابن تيمية مرجعها الأساس "وقرآنها" المقدس. فهي تقدّس فتاوى ابن تيمية أكثر مما تقدّس آيات القرآن الكريم وأحاديث نبيه الكريم. فعلى مدى خمسة عقود وشيوخ ودعاة الوهابية وفقهاء تنظيمات الإسلام السياسي ينشرون عقائدهم التكفيرية بين أفراد المجتمع بكل الوسائل . ما هو هدف هذه التنظيمات؟ الهدف هو تنميط التفكير والسلوك في المجتمع ومحاربة الاختلاف والتنوع بغرض تحويل المواطنين إلى قطيع آدمي يسهل التحكم فيه وقيادته لتحقيق الهدف المركزي وهو "التمكين"، أي السيطرة على المجتمع وعلى الدولة ، فإن الوسيلة الوحيدة التي تخدم إستراتيجيتهم هي استغلال الدين وتوظيفه كأداة فعالة للتحكم في سلوك ووجدان الناس. لقد حرّموا كل ما يفيد الناس والمجتمع (حرّموا الديمقراطية والانتخابات وخروج المرأة للعمل وسفرها، كما حرّموا الإنتاجات التقنية وحرموا زراعة الأعضاء )؛ فليس غريبا عليهم أن يحرّموا الفرح والابتسام والفنون والاحتفالات بكل أنواعها ومناسباتها. لم ينشغل هؤلاء الشيوخ والدعاة والفقهاء بالتنمية البشرية وتطوير الاقتصاد والتطبيقات العلمية والتقنية لأنهم أعداء ما يجهلون. بل كثير منهم يكّفر العلوم الحقة ويُنكر الحقائق العلمية كما ينكر كروية الأرض وغزو الفضاء. إذن، المجال الوحيد الذي ينشطون فيه هو تشويه الدين وإفساد وعي الناس وطبيعتهم السمحة. شيوخ ودعاة ضد منطق التاريخ وصيرورة المجتمعات وحركيتها. ما هي مرتكزات هذا الخطاب وهل لها أصل في الدين؟ يرتكز منتجو ومروّجو هذا الخطاب على تأويل مجحف لبعض الآيات القرآنية بعد فصلها عن سياقها التاريخي وأسباب نزولها؛ آيات تنهى المسلمين عن موالاة الكفار. كما يرتكزون على بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول (ص) والتي تتناقض مع القرآن الكريم ومنها حديث "لاَ تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ"، فهذا الحديث رواه سُهيل بن أبي صالح عن أبيه. وقد انتقده علماء الجرح والتعديل وقالوا إن سهيل أصابته علة فنسي حديثه وتغيّر حفظه. وقال عنه ابن مَعين: "لم يزل أصحاب الحديث يَتَّقُون حديثَه". فالقرآن الكريم يحرض على المعاملة الطيبة وعلى البرّ بأهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، قال تعالى:"لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8]. فكيف يكون البرّ والقسط إن لم يكن بالمعاملة الطيبة وتبادل التهاني ورد التحية بأحسن منها. لكن دعاة التطرف والكراهية لا يَبرّون أهلهم وجيرانهم وعموم المواطنين المسلمين فكيف سيبرون غير المسلمين. إذ بسبب عقائد التكفير والتطرف أصابت الغلظةُ قلوبَهم وعميت أبصارهم وبصيرتهم عن الآيات القرآنية التي تمدح أهل الكتاب، وخاصة المسيحيين مثل قوله تعالى-:"وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة: 82]، وقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً" [الحديد: 27]. لا يمكن للمتطرفين الذين تتغذى قلوبهم على الكراهية أن يستوعبوا معنى هذه الآيات ويعملوا بها. فالله تعالى أحل للمسلمين نساء وطعام أهل الكتاب. قال الله تعالى "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، المائدة:5. ومعلوم أن الزواج يقوم على المودة والسكينة والرحمة، كما في قوله تعالى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" الروم: 21. فهل من المودة والرحمة ألا يشارك الزوج المسلم زوجته المسيحية أفراحها وأعيادها الدينية وألا يقدم لها الهدايا وألا يبادر إلى تهنئتها؟ طبيعي أن يحرّم المتطرفون تهنئة الأزواج المسلمين لزوجاتهم من أهل الكتاب، كما يحرمون مشاركتهن الاحتفال. ماذا يعني هذا؟ المتطرفون أشد غلظة وقسوة على النساء المسلمات وعلى زوجاتهم بالخصوص؛ لهذا لن يقبلوا أن تصدر عن المسلم أي إشارة مودة ورحمة لزوجته الكتابية. ألم يفت شيوخ الوهابية والسلفية التكفيرية بسبي الإيزيديات وبيعهن في سوق النخاسة؟ فهل ننتظر من هؤلاء المتطرفين أن تلين قلوبهم للزوجات الكتابيات أو يفتوا بجواز تبادل التهاني مع أهل الكتاب؟ أكيد لن يفعلوا. رغم ذلك هناك إقبال كبير لعموم المسلمين على هذه الاحتفالات.. ما سر ذلك؟ النفس البشرية تميل إلى الفرح، وكل الشعوب أبدعت وتبدع أشكال التعبير عن هذا الفرح . ولا يشذ المسلمون عن هذه القاعدة/الطبيعة البشرية. وتكفي المواطنين المشاكل اليومية التي يواجهونها وظروف الحياة التي تتطلب الكد والصبر والتحمل، فلا يمكن أن يتحملوا منعهم من الاحتفال والفرح مهما كانت المناسبات بسيطة. إن الفرح والترويح عن النفوس والاحتفال، كلها مناسبات تعيد للنفوس توازنها وحيويتها لمواصلة العمل ومواجهة الصعاب. فالاحتفال برأس السنة الميلادية هو احتفال بلحظة توديع البشرية لسنة إدارية واستقبال أخرى. فكل شعوب الأرض، على اختلاف دياناتها ومعتقداتها تحتفل بهذه المناسبة، بحيث لم يعد الاحتفال مرتبطا فقط بالمسيحيين، بل بكل الشعوب على اختلاف معتقداتها. لا يمكن إذن قمع الفرح ومنع التعبير عنه. الملاحظ أن فتاوى التحريم لا تشمل رأس السنة الميلادية بل أيضا أعيادا أخرى لها علاقة بمكونات الثقافة المغربية مثل رأس السنة الأمازيغية وأعياد اليهود المغاربة.. ما تعليقك؟ أكيد أن عقائد التكفير والكراهية والتحريم لا تميز بين المناسبات. فغاية هذه العقائد هي تحريم الفرح وتحريم التعبير عنه. ومناسبة رأس السنة الميلادية ليست سوى مناسبة يستغلها حملة عقائد التكفير لنشر الكراهية والعداء. ومن المفارقات التي يسقطون فيها وتكشف عن حقيقة تطرفهم أننا نجدهم يبررون تحريم الاحتفال برأس السنة الميلادية بأنه مناسبة تخص المسيحيين دون المسلمين. بينما نجدهم يحرّمون على المسلمين الاحتفال بعيد المولد النبوي الذي يخص المسلمين فقط. وهذا دليل على أن المتطرفين لا يعنيهم رأس السنة الميلادية ولا الاحتفال بها، بقدر ما يعنيهم حرمان المسلمين من فرص الفرح والاحتفال حتى وإن كانت مناسبات دينية. وما دام الأمر كذلك، فإن التحريم يسري على كل المناسبات الدينية والوطنية والشعبية. ليعلم يتامى الوهابية والسلفية التكفيرية أن الشعوب تظل متشبثة بهويتها الأصلية، وقد فشلت أعتى الأنظمة الديكتاتورية في طمس هوية الشعوب. وليعلموا كذلك أن السعودية، مهد الوهابية، باتت تسمح باحتفالات رأس السنة الميلادية . فالفرح والاحتفال سلوك حضاري يعبر من خلاله كل شعب عن هويته وخصوصيته . والاحتفال برأس السنة الميلادية هو تعبير عن وعي الشعوب المسلمة بانتمائها إلى البشرية كلها التي خلقها الله شعوبا وقبائل للتعارف والتعاون وليس للصراع والتباغض. في سطور < أستاذ باحث في قضايا الإسلام السياسي . < من مؤلفاته : - "مشروع خطة إدماج المرأة بين التشريع المساند والتشنيع المعاند". - "الشيخ ياسين ووسواس المهدوية". - "الشيخ ياسين من الدروشة إلى القومة". - "الشيخ ياسين من القومة إلى دولة الخلافة". - "الحوار الموؤود والطوفان الموعود".