الحرية لا تتجزأ

الفضيلة التي تفرض نفسها بالصراخ والغصب هي رذيلة متخفية تنتظر فرصة لاقترافها حامد عبد الصمد (*) تخيل درجة البؤس في بلد يناقش لأيام عديدة لماذا لا يشرب لاعب كرة قدم الخمور. لاحظ عزيزي المواطن "الحزّيق" أن النقاش لا يدور حول لماذا يشرب وإنما لماذا لا يشرب. أصل هذا البؤس هو أن جموعا غفيرة من الناس لا تستطيع أن تقرر بنفسها ماذا تأكل وماذا تشرب وتحتاج لذلك تعليمات من رجل مات منذ أكثر من 1400 سنة. وزاد من البؤس إيمان هؤلاء الناس أن هذه التعليمات صادرة من الله مباشرة وأن عليهم أن يطبقوها ولو بالعنف. وزاد من البؤس أن من لا يصدقون هذا الكلام الساذج لا يستطيعون أن يبوحوا بذلك خوفا من الجماهير البائسة، بل لا يستطيعون أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا ما يريدون خوفا من أو تملقا لتلك الجماهير التي ليست بالضرورة على درجة من الفضيلة تؤهلها للحكم على أخلاق البشر، بل انتشرت بينها ظواهر مثل التكاسل والتحرش والنصب والعنف وأكل مال اليتيم والاستيلاء على ميراث الأخوات وشرب الحشيش و"الترمادول" وكل أنواع المخدرات. فقد التقيت بسفراء ووزراء وشعراء ومفكرين وإعلاميين وأساتذة جامعيين يشربون الخمور في مطاعم في بلاد عربية وأجنبية وهم يلتفتون حولهم مخافة أن يراهم أحد أو أن يلتقط لهم أحد صورة وهم يمارسون أبسط حق من حقوقهم، بينما الفاسد لا يخشى عاقبة والمتحرش لا يخشى عقابا والإرهابي يظن أنه ينتصر للفضيلة. وهذا الخوف والتملق والصمت واختزال الدين في المظاهر وفي الأكل والشرب جعل هذه الجماهير تشعر بالاستحقاق والتبجح، وجعلها تظن أن من حقها التدخل في حياة الناس الخاصة وأن تقرر لهم ما يدخل إلى بطونهم وما يفعلون في غرف نومهم. جعلتهم لا يتعلمون ممن خرجوا من المستنقع ونجحوا بل يريدون أن يجرّوهم من جديد لمستنقع الفشل والقهر. أحيانا أشعر بالتعاطف مع هؤلاء البسطاء الذين خسروا كل شيء ولم يتبق لهم إلا دور حماية الدين وحراسة الأخلاق، لأنهم ضحايا الجهل والخوف وقلة الحيلة، لكني لا أستطيع أن أتعاطف مع من يتواطؤون معهم من المثقفين والإعلاميين الذين يرضخون لصراخهم وعفتهم الزائفة بل ويزايدون عليهم أحيانا. فهؤلاء معدومو الكرامة والشرف حسب تعريف نوال السعداوي لأن الشرف هو أن تعيش حياة واحدة في السر والعلن وتكون متسقا مع ذاتك ولا تخجل من أسلوب حياتك، ولا أن تدعي الفضيلة أمام الناس وتتصرف بشكل مغاير حين تكون وحدك... أقولها دائما وأكررها: الحرية لا تتجزأ! من حق المتدين أن يمارس طقوسه بحرية وأن يمتنع عما يشاء، ولكن ليس من حقه أن يمنع أحدا من أكل أو شرب ولا أن يحكم عليه، وإلا صار إيمانه مجرد أداة تسلط وقهر. المؤمن الحقيقي يعتقد أن الله يحميه، لكن المتعصب يعتقد أن واجبه هو حماية الله. المؤمن يراقب تصرفاته والمتعصب يراقب تصرفات جاره. المؤمن يشعر بالسكينة والرضى بينما المتعصب لا يكف عن الصراخ. إن الإيمان الذي يهزه كأس بيرة أو خمر هو إيمان وهمي وضعيف. إن الفضيلة التي تفرض نفسها بالصراخ والغصب هي رذيلة متخفية تنتظر فرصة لاقترافها. إن المجتمع الذي تضطر فيه أن تبرر ماذا تأكل وماذا تشرب هو مجتمع موبوء يقهر نفسه بنفسه، قبل أن يقهره حاكم أو مؤسسة دينية. ودور المثقف هو أن يواجه هذا المجتمع بزيف أخلاقه لا أن يتواطأ مع هذا الزيف. دور المثقف هو أن ينتصر للحرية لا أن يختبئ ولا أن يدافع عن الظلم باسم الحفاظ على مشاعر الناس، لأن هذه المشاعر هي بارود في بنادق القهر والقتل وقمع الحريات... (*) كاتب ومفكر مصري مقيم بألمانيا

الحرية لا تتجزأ

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تيار التغيير لمواجهة العسالي

إصلاح التعليم... صخرة سيزيف!

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات