مدونة الأخلاقيات… دركي القضاة

قيدت من حرية تعبيرهم وأجبرتهم على الحياد والتجرد على بعد شهور من انتهاء الولاية الأولى من عمر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، خرجت إلى الوجود مدونة القيم الأخلاقية التي طالما انتظرها القضاة باعتبارها خارطة الطريق، وكما قال عنها مصطفى فارس، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، " إن الثقة في القضاء ودعم مصداقيته لن يتحقق إلا عن طريق ترسيخ هذه القيم والأخلاقيات القضائية الرفيعة وسيادة السلوك القويم لدى مكونات الجسم القضائي برمته، مع ضرورة الالتزام والتقيد بها من طرف القضاة في حياتهم المهنية وسلوكهم الشخصي بما يحافظ على هيبة القضاء وحرمته". مدونة الأخلاقيات المهنية التي دخلت حيز التنفيذ منذ نشرها في الجريدة الرسمية ستمكن القضاة، على اختلاف مراكزهم ومسؤولياتهم ومهامهم، من معرفة أكبر بواجباتهم الملتزمين بها مهنيا وأخلاقيا، وستفتح الباب للمتقاضين للاطلاع على معايير واضحة ومعروفة لأخلاقيات مهنة القضاة من أجل بناء الثقة وتدعيم صورة الجهاز القضائي وتحسين فعاليته ونجاعته. أعطت مدونة الأخلاقيات تعريفا للحياد والتجرد بأداء الوظائف القضائية طبقا للوقائع المعروضة ووفقا للقانون، دون أي تحيز أو تحامل أو محاباة تجاه أي طرف من أطراف الدعوى، وعدم اتخاذ أي موقف من شأنه التشكيك في سير إجراءات الدعوى ومصداقيتها، والتحرر من القناعات الإيديولوجية أو الثقافية أو العقائدية أو الفلسفية عند البت فيها. هذا التعريف ألزم القاضي بالتقيد بعدد من المبادئ من بينها الحياد عند تعيين مساعدي القضاء من خبراء وتراجمة لمباشرة إجراءات مسطرية، والتأكد من جديتهم وحسن سلوكهم، ومراعاة في تعيينهم مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، مع الحرص سواء داخل المحكمة أو خارجها، على أن يعزز سلوكه ثقة المجتمع ومساعدي القضاء والمتقاضين في حياد القضاة والنظام أثناء سريان الإجراءات القضائية، ويمتنع القاضي عن القيام بأي فعل قد يسيء إلى حياده وسمعة السلطة القضائية ككل، كإبداء ملاحظات غير لائقة للأطراف أو دفاعهم أو الشهود أو لغيرهم، كما يمتنع القاضي عن الاتصال بأطراف النزاع أو ممثليهم القانونيين أو الشهود إلا عن طريق كتابة الضبط أو كتابة النيابة العامة. كما يفرض الحياد على القاضي عدم الكشف عن المعلومات التي اطلع عليها لمناسبة وظيفته القضائية، أو يدلي بها إلى الغير، أو يستخدمها في أغراض أخرى. الاستقلال... صورة القضاء في المجتمع من المبادئ التي اعتبرتها المدونة ذات أهمية الاستقلال، الذي عرفته بأنه ممارسة القاضي لمهمته القضائية دون الخضوع لأي ضغط أو تلقي أي أوامر أو تعليمات من أي جهة كانت، ما عدا ضميره المهني والتزامه بالتطبيق العادل للقانون، وقواعد العدالة والإنصاف المتعارف عليها دوليا، والتزام قضاة النيابة العامة بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها. ويفرض الاستقلال على القاضي التحرر عند البت في النوازل، من جميع المؤثرات الخارجية، سواء كانت إعلامية أو مجتمعية، ويحرص على أن تتسم القرارات والإجراءات المتخذة بالشرعية والولاء للقانون وحده، كما أنه على قاضي النيابة العامة خلال مرافعاته أن يبسط وجهة نظره بكل حرية، وبما يرضي ضميره، ويعكس قناعاته القانونية والعادلة، مع مراعاة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبع لها. ويحترم قضاة النيابة العامة استقلالية قضاة الحكم عند القيام بمهامهم، ويمتنعون عن التشكيك في الأحكام والقرارات الصادرة عنهم، كما يحترم قضاة الحكم استقلالية قضاة النيابة العامة في ما يتخذونه من إجراءات وقرارات، ما عدا الحالات التي ينص القانون فيها صراحة على ضرورة مراقبة مثل هذه الإجراءات والقرارات. ويمارس القاضي مهامه القضائية دون أدنى تبعية أو تدخل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويستحضر مبدأ الاستقلال في كل علاقة وظيفية معهما، ويعمل القاضي على إحالة الأمر فورا إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ليتخذ الإجراءات اللازمة، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد بسبب وجود تأثيرات أو ضغوطات تمارس أو يمكن أن تمارس عليه من قبل أي جهة كانت. الشجاعة الأدبية... مقاومة الحرج والتردد نصت المدونة على ضرورة توفر القاضي على الشجاعة الأدبية التي يقصد منها القدرة على التعبير عن القناعات القانونية والدفاع عنها بشجاعة، ويقصد بالجرأة القدرة على الحسم، وعدم التردد في اتخاذ القرار الملائم المستمد من الحق والقانون، والقدرة على مقاومة الحرج والتردد، من خلال وعيه بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه باعتباره الحامي لحقوق وحريات الأشخاص، والساهر على أمنهم القضائي، ومن ثم يفي بهذه الالتزامات دون تردد أو خوف أو خجل، كما أنه يصدر الأحكام وفق القناعة الشخصية والضمير المهني والتطبيق العادل للقانون، دون الأخذ بعين الاعتبار ما قد ينتج عنها من حرج أو ضيق أو استنكار، ويجتهد القاضي من أجل تطوير قدراته على الدفاع عن استقلاليته، وعن مكانة القضاء وسمعته، باستعمال جميع الوسائل المشروعة، كما يدافع القاضي عن القناعات القانونية ومبررات اتخاذ الأحكام أثناء المداولات، دون التأثر بضغوطات الرأي العام أو الصحافة أو الزملاء أو بأي سبب كان. النزاهة..."ترمومتر" الإصلاح وضعت مدونة القيم النزاهة التي يجب أن يتوفر عليها القاضي ضمن الأولويات، من خلال الابتعاد عن أي سلوك مشين، ورفض كل إغراء مادي أو معنوي يؤثر على عمل القاضي، ويسيء إلى سمعته وإلى السلطة القضائية، ويهدف الالتزام بمبدأ النزاهة إلى تكريس وعي القاضي بأن تصرفه الشخصي ينعكس بكيفية تلقائية على صورة السلطة القضائية، وعلى سمعة زملائه، وكذا على ثقة المجتمع فيه، من خلال امتناعه عن تسخير صفته القضائية لتحقيق مصالح وامتيازات شخصية غير مشروعة، عبر استغلال تلك الصفة، سواء لمناسبة قيامه بمهامه القضائية أو بسببها، والامتناع عن المشاركة في أي مزاد سواء تم الإعلان عنه بالمحكمة التي يعمل بها أو بأي محكمة أخرى، والامتناع عن قبول، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، هدية أو مكافأة، أو مقابل كيفما كانت طبيعته، ومن أي جهة كانت، سواء لمناسبة قيامه بمهامه القضائية أو بسببها. وتفرض النزاهة على القاضي اختيار الأماكن التي يتردد عليها بعناية، ويتوخى الاحتياط عند ربط العلاقات الشخصية، من خلال الابتعاد عن الأماكن المشبوهة والأشخاص سيئي السمعة، كما يحصن القاضي حياته الخاصة لتكون فوق الظنون والشبهات، من خلال إعطاء المثال والقدوة الحسنة في التعامل مع المحيط العائلي ومع العموم، ويحرص القاضي على التصريح بممتلكاته داخل الآجال القانونية، بكل صدق وشفافية، وباحترام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، والابتعاد عن أي سلوك مناف للقانون، والوعي بأن سلوكه الشخصي ينعكس تلقائيا على صورة السلطة القضائية وصورة القضاة . الكفاءة والاجتهاد... ثقة المجتمع في العدالة لم تلغ مدونة القيم الكفاءة والاجتهاد اللذين يجب أن يتوفرا في القاضي من خلال مواكبة المستجدات القانونية والاجتهاد القضائي، والحرص على ضمان جودة الأحكام والقرارات القضائية، وإعطاء القضايا التي ينظر فيها كامل العناية من خلال الدراسة القبلية لها والبت فيها داخل آجال معقولة. واعتبرت المدونة أن الكفاءة والاجتهاد أمران ضروريان للحفاظ على ثقة المجتمع في العدالة من أجل ضمان تجويد الخدمة القضائية، من خلال توظيف القاضي تحصيله العلمي وتجربته القضائية بحس عال من المسؤولية بشكل يتيح له القيام بعمله على أحسن وجه، مع مواكبة ما يستجد من مقتضيات قانونية، ودراسات فقهية، والانفتاح على مختلف التجارب والتطبيقات لتوسيع وتعزيز مصادر رصيده المعرفي، كما يتعين على القاضي أن يكون على علم بالتطورات المتعلقة بالقانون الدولي، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية وغيرها من الصكوك التي تحدد معايير حقوق الإنسان. ومن التطبيقات التي تعكس هذه القيمة، امتناع القاضي عن الدفاع علنا عن المؤيدات التي اعتمدها في قراراته وأحكامه حتى وإن أثارت النقاش داخل المجتمع، والامتناع عن إعطاء أي استشارة قانونية، سيما في القضايا المعروضة على أنظار القضاء، والحرص على عدم الإساءة لسمعة القضاة والسلطة القضائية وعدم المس باستقلال ونزاهة وحياد القضاء، سيما عند مشاركته في الأنشطة والندوات العلمية، ويتقبل القاضي القيود المفروضة على الحياة الخاصة للقضاة، والتي قد تبدو عبئا بالنسبة للمواطن العادي، ويتصرف بما يتماشى مع كرامة وشرف رسالة القضاء. التعامل مع الإعلام... الحيطة والحذر وضعت المدونة شروطا صارمة في تعامل القضاة مع الصحافة والإعلام، باستحضار ما يليق بمكانة القضاء من حرص على حياده واستقلاله، وتجنب الدخول في سجالات قد تؤثر سلبا على صورته قاضيا وعلى هيبة القضاء، مع ضرورة الإشعار المسبق للرئيس المنتدب ولرئيس النيابة العامة بالنسبة إلى قضاة النيابة العامة، عند إجراء المقابلات الإعلامية والإدلاء بالتصريحات الصحفية، باستثناء القضاة المعينين للتحدث باسم المؤسسات القضائية والقضاة ممثلي الجمعية المهنية المخول لهم وفق أنظمتها الأساسية التحدث باسمها، عند التطرق إلى أنشطة جمعياتهم ومجالات اشتغالها.وحصرت المدونة التواصل مع وسائل الإعلام، من أجل تنوير الرأي العام، في المسؤول القضائي أو من ينوب عنه أو من يعينه للقيام بهذه المهمة. وسائل التواصل الاجتماعي... ممنوع السجال قيدت مدونة القيم استخدام القضاة لوسائل التواصل الاجتماعي، من خلال وضع قيود عدة من بينها، التزام القاضي بدرجة عالية من الحذر عند التعبير عن آرائه ومواقفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أفصح عن صفته القضائية أم لا، وسواء تعلق الأمر بالشأن القضائي أو بحياته الخاصة أو بأي شأن آخر، والابتعاد عن كل ما هو مسيء لسمعة القضاء أو يمس باستقلال ونزاهة وحياد القاضي، عند استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي، ويراعي المكانة الاعتبارية للقضاة سواء في الكتابات أو التعليقات أو الردود، ويشمل ذلك مختلف المعطيات الإلكترونية المتداولة كالصور والأشرطة المصورة وغيرها، علاوة على توخي الاحتياط في قبول "الصداقات " عبر هذه الوسائط، والحرص عند استعماله لأي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، سواء استعمل اسمه الحقيقي أو اسما مستعارا أو صورته أو صورة مرتبطة به، أن يحترم الشرف والوقار والكرامة، وألا يستخدم لغة مشينة أو غير لائقة، أو يرسل صورا من شأنها المس بصورته وبصورة القضاء. ومنعت المدونة القاضي من الدخول في مواقف وسجالات علنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع أي كان سيما مع مساعدي القضاء بشكل يمس بصورته قاضيا، ويخدش صورة وهيبة القضاء، أو يؤثر سلبا على الثقة المتبادلة المفروضة بين القضاة ومساعدي القضاء. وأن يضع القاضي في اعتباره أن عدم الكشف عن هويته الحقيقية عند استعماله لوسائل التواصل الاجتماعي، لا يحرره من التزاماته الأخلاقية، إذ عليه التقيد بأسلوب يتلاءم مع هذه الالتزامات.

مدونة الأخلاقيات… دركي القضاة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مطالب متجددة بفتح المسارح

قطار يدهس أربعينيا بمكناس

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات