بنـور: الجمع بين التعليم الجامعي و المحاماة … ضرورة أم اختيار؟

القانون المنظم للمحاماة قاصر عن مواكبة روح وفلسفة النموذج التنموي المنشود دة. سعـاد بنـور * دخل المغرب في الآونة الأخيرة دينامية جديدة بعد إعلان جلالة الملك عن ضرورة تبني مشروع تنموي جديد، وبعد وضعه للبنات هذا المشروع التنموي، والذي يضع في صلب أولوياته رهان التعليم وضرورة تأهيله بشكل يسمح للخريجين بولوج سوق الشغل وضمان العيش الكريم. ولعل تعيين جلالته لثلاثة عشر أستاذا جامعيا من بين ستة وثلاثين عضوا المشكلين للجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، لدليل واضح على رغبته في انخراط الجامعة في هذا الورش الوطني. ولا يمكن للأستاذ الجامعي أن يقوم بالدور المنوط به في هذا المشروع التنموي الجديد، والمتمثل في تكوين خريجين قادرين على خوض غمار سوق الشغل وقادرين على تقديم أنفسهم رافعة أساسية لإنتاجية المقاولة وتنافسيتها، إذا كان هو نفسه منفصلا عن هذا الواقع وهذه الحركية الاقتصادية, بفعل نصوص قوانين قاصرة عن مواكبة هذه الدينامية مثل القانون المنظم لمهنة المحاماة. قانون مهنة المحاماة يكرس التنافي ففي الوقت الذي تجمع فيه التشريعات المقارنة بل تسعى إلى أن يجمع الأستاذ الجامعي بين مهنة التدريس في المعاهد والكليات و مهنة المحاماة لتحقيق التلاقح بين المهنتين ، نجد القانون المنظم لمهنة المحاماة في المغرب يكرس التنافي بين المهنتين كأنهما مهنتان متعارضتان في المبدأ والغاية، الشيء الذي انعكس بشكل سلبي على المهنتين معا، حيث بقي الأستاذ حبيس التكوين والتلقين النظريين. كما بقي المحامي حبيس المساطر والإجراءات، ولم يستطع إلى حد ما أن يمارس دوره شريكا في بناء النسق القانوني وتطوير المبادئ والإجابة عن الإشكاليات الموضوعية التي ما فتئت تتناسل باضطراد، كما لم يستطع أن يقدم نفسه فاعلا رئيسيا في الدينامية الاقتصادية لتطوير ومواكبة المقاولة التي يقع عليها الرهان في البرامج التنموية. مسار التنافي لقد كان الأستاذ الجامعي المغربي، شأنه في ذلك شأن نظرائه في باقي دول المعمور، يزاوج بين مهنة المحاماة ومهنة التعليم والبحث العلمي، إلى أن جاء الظهير الشريف رقم 162.93.1 الصادر في 10 سبتمبر 1993 المعتبر بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، والذي أتى بمقتضى جديد في المادة 7 وهو تنافي مهنة المحاماة مع جميع الوظائف المأجورة، وهو الموقف نفسه الذي تبناه القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة الصادر في 20 أكتوبر 2008 في مادته السابعة. غير أن السادة المحامين ما لبثوا أن انتبهوا إلى أهمية المزاوجة بين مهنتي المحاماة والتعليم الجامعي، فتقدموا بمقترح قانون عن طريق الفريق الحركي بتاريخ 10/12/2013 طالبوا بمقتضاه بتعديل المادة السابعة والسماح للمحامين بولوج مهنة التدريس و الجمع بينها و بين مهنة المحاماة. وبناء على مقترح القانون هذا تمت صياغة النسخة الأولى من مسودة مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة التي أعدتها جمعية هيآت المحامين بالمغرب في 2014 حيث تم فيها إلغاء حالة التنافي في المادة 9 من المسودة التي جاء فيها: «لا تتنافى مهنة المحاماة مع: 1 … - 2 … - 3 - مزاولة مهنة التدريس في المعاهد والكليات" مما كان يوحي بإلغاء حالة التنافي بين مهنتي التدريس والمحاماة، غير أن المتصفح لباقي المواد، سيفاجأ بالمادة 18 من المسودة التي جاء فيها: ".... يعفى من الحصول على شهادة الكفاءة لمزاولة مهنة المحاماة: 1 .… - 2 .… - 3 - أساتذة التعليم العالي، في مادة القانون، الذين زاولوا، بعد ترسيمهم، مهنة التدريس مدة ثماني سنوات بإحدى كليات الحقوق بالمغرب، وذلك بعد قبول استقالتهم". وقد انتبه أساتذة القانون لهذا التمييز غير المبرر وغير المستساغ بين المحامي، الذي رفعت عنه المسودة التنافي في حال رغبته في ولوج مهنة التدريس، وبين الأستاذ الجامعي الذي ألزمته بتقديم الاستقالة بعد أن يكون قد قضى في التعليم ثماني سنوات. إعادة النظر في مسودة القانون وقد قام أساتذة القانون بمساع لدى القائمين على مهنة المحاماة من أجل إعادة النظر في مسودة القانون المنظم لمهنة المحاماة، أولا برفع التمييز بين المحامي والأستاذ الجامعي، وثانيا بانفتاح المهنتين على بعضهما. ورغم هذه المساعي صدرت النسخة الحالية للمسودة في 2019 لتتراجع عن مقتضيات المادة 9 من النسخة الأولى التي ترفع التنافي، مكرسة من جديد حالة التنافي بين المهنتين ما لم يكن التدريس بصفة عرضية، إذ نصت في المادة 10 على أنه "لا تتنافى مهنة المحاماة مع: مزاولة مهنة التدريس في المعاهد والكليات بصفة عرضية" ، مستنسخة في ذلك خطوات التجربة الفريدة والشاذة للمشرع التونسي التي أثبتت فشلها. وهنا نتساءل: 1ـ كيف يمكن للتدريس أن يكون مهنة إذا كان سيمارس فقط بصفة عرضية؟ 2ـ كيف سيساهم التدريس بصفة عرضية في الارتقاء بمهنة المحاماة إذا ظل المحامي بعيدا عن البحث العلمي والتأطير ما دام التدريس بصفة عرضية لن يمكنه من الانضمام لمختبرات وفرق البحث وتأطير الدكتوراه؟ 3ـ كيف يجب أن نفهم أن يوضع مقترح قانون أمام مجلس النواب ينبه لضرورة تعديل مقتضى هام لتأثيراته السلبية على مهنة المحاماة، ويتم وضع مسودة تتبنى هذا المقترح لكنها تكرس في الوقت نفسه تمييزا بين الأستاذ والمحامي ؟ 4ـ هل باعتماد مبدأ الاحتكار ستساهم مهنة المحاماة في بناء النموذج التنموي الجديد؟ 5ـ ألا تشكل مسودة 2019 بالمسار الذي قطعته إلى أن وصلت إلى النسخة الحالية، تجسيدا حقيقيا لما قاله جلالته في خطاب العرش الأخير عند حديثه عن رفض المهن الحرة للانفتاح وانغلاقها على الذات "فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية"؟. المحاماة والتعليم والنموذج التنموي الجديد لقد ساهم الوضع الحالي القائم على التنافي بين مهنة التدريس والتعليم الجامعي في فصل المهنتين عن بعضهما. فعلى مستوى التعليم الجامعي القانوني أدى هذا الفصل بين المهنتين إلى بقاء أساتذة القانون حبيسي التكوين النظري، وبالتالي لم يكن في مقدورهم تقديم الحلول والمساهمة في النمو الاقتصادي عن طريق تأمين مواكبة علمية فعالة للمقاولة، و بالتالي انعكس ذلك على دور الجامعة في مجال البحث العلمي الذي ظل إلى حد كبير منفصلا عن الواقع و مغرقا في البحث في إشكاليات نظرية لا تفيد المقاولة في شيء، و إذا أضفنا إلى ذلك صعوبة الحصول على الأحكام والقرارات القضائية سيظهر لنا كيف أن الأستاذ الجامعي ظل بعيدا عن إمكانية التفاعل مع مشاكل الواقع القانوني والتأثير فيه. وقد كانت لهذا المشكل تأثيراته على التكوين الذي يتلقاه طلبة القانون، حيث بقي تكوينا نظريا. وفي الوقت الذي كان من المفترض في طالب القانون أن يكون من الكفاءات المطلوبة في سوق الشغل، انضاف هو أيضا إلى أفواج الطلبة العاطلين رغم أن المقاولات ما فتئت تعبر عن حاجتها المتزايدة لمستشارين قانونيين دائمين يضمنون للمقاولة المواكبة والأمن القانونيين. ذلك لأن أستاذ القانون، ونتيجة حرمانه من الممارسة العملية لم يساهم في توفير أطر قادرة على سد هذه الاحتياجات وحل هذه المشاكل، كما لم تكن له حتى المعطيات التي من خلالها يمكنه اقتراح تكوينات علمية قانونية تستجيب لحاجيات بناء النسيج الاقتصادي الوطني، و هذه الحقيقة هي ما نبه لها جلالته في خطابه السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والستين لثورة الملك والشعب "إذ لا يمكن أن نقبل لنظامنا التعليمي أن يستمر في تخريج أفواج من العاطلين، خاصة في بعض الشعب الجامعية، التي يعرف الجميع أن حاملي الشهادات في تخصصاتها يجدون صعوبة قصوى في الاندماج في سوق الشغل. وهو هدر صارخ للموارد العمومية، ولطاقات الشباب، مما يعرقل مسيرات التنمية، ويؤثر في ظروف عيش العديد من المغاربة". كذلك من التأثيرات السلبية لمسألة التنافي بين مهنتي التعليم والمحاماة على التعليم الجامعي، وهي أنها تقف حاجزا منيعا أمام انفتاح التعليم الجامعي المغربي على محيطه الإقليمي. على مستوى المحاماة ونتيجة لحالة التنافي ظل المحامي حبيس المساطر والإجراءات دون الدخول الفعلي في صلب المشاكل الواقعية للمقاولة، بل اقتنع المحامي نفسه بأن دوره يأتي في مرحلة النزاع وأمام القضاء وبالتالي لم يسع إلى أن يقدم نفسه فاعلا أساسيا وشريكا حقيقيا في نمو المقاولة ومواكبتها وممارسة المراقبة القانونية القبلية قبل مرحلة النزاع، الشيء الذي انعكس على دور المحامي في بناء الدينامية الاقتصادية وانعكس أيضا على جموع المحامين ومجال اشتغالهم. فعلى مستوى دور المحامي في بناء الدينامية الاقتصادية يتضح أنه ونظرا لابتعاده عن تغذية وتدعيم تكوينه النظري وغيابه عن الجامعة وإقصائه بالقانون المنظم لمهنته من ممارسة البحث العلمي، ورغم الفرصة المتاحة له لمعرفة احتياجات المقاولة ومشاكلها على عكس الأستاذ الجامعي، لم يستفد من ذلك سواء في الداخل أو الخارج. ففي الداخل، ولأن المقاولات الكبرى تدرك ما يعانيه المحامي من نقص في التكوين في مجال قانون الأعمال، غالبا ما تضطر للجوء إلى خدمات مكاتب أجنبية أقدر على فهم مشاكلها والاستجابة لاحتياجاتها، وبالتالي قادرة على توفير الحماية والأمن القانونيين لها. وفي الخارج لم يستطع المحامي المغربي أن يفتح للخدمات القانونية سوقا خارجية رغم أن المغرب يعرف انفتاحا اقتصاديا غير مسبوق على محيطه الإقليمي والإفريقي، حيث بقي المحامي بعيدا عن التفاعل مع هذه التجربة الكبيرة أو الاستفادة منها. أما على مستوى جموع المحامين ومجال اشتغالهم، فقد أدى التكوين النظري الذي تلقوه في الجامعة وغياب التخصص و اقتناعهم بأن دورهم يأتي بعد النزاع وبأن مهمتهم هي القيام بتحريك المساطر النزاعية، إلى إغراقهم في ملفات بسيطة تتعلق بقضايا الأسر، بدل السعي إلى فتح أسواق الخدمات القانونية الجديدة والاستفادة من الدينامية الاقتصادية و من الفرص الحقيقية التي تمنح لهم في الآونة الأخيرة بانفتاح المغرب على إفريقيا، وذلك لأن تنظيم المهنة بقي خاضعا لمنطق الاحتكار والانغلاق الذي نبه جلالته في خطاب العرش الأخير القائمين على المهن الحرة بضرورة التخلي عنه و الاستفادة من مختلف التجارب العالمية . ضرورة تجويد الخدمات و عوض أن يسعى القائمون على مهنة المحاماة إلى الاستفادة من النقاش الذي تعرفه هذه المهنة في بعض الدول كفرنسا و تونس، و بالتالي تعديل القانون بما يخدم المهنة و الانفتاح على الجامعة و التكوين والبحث العلمي، فإنهم يسعون إلى كسب أسواق جديدة بتوسيع اختصاصات المحامي دونما إدراك لمدى توفره على آليات ولوج هذه الأسواق أو اكتساب هذه الاختصاصات. فمثلا جاء في المسودة الحالية في المادة 35 "يجب على الشركات التي يتطلب القانون أن يكون لها مراقب للحسابات، أو التي يتجاوز رقم معاملاتها خمسة ملايين درهم التعاقد مع محام أو أكثر كمستشار قانوني". وهنا نتساءل هل يمكن لجموع المحامين بتكوينهم الحالي الموسوعي الاستفادة من مقتضيات هذه المادة؟ وهل يمكنهم تقديم خدمات قانونية فعالة من شأنها أن تقنع المقاولة بدفع أتعابهم؟ وهل إعادة التكوين التي تقوم بها الهيآت قادرة على سد الخصاص في التكوين في مجال الأعمال، أم لا بد من إشراك الجامعة وبالتالي مد الجسور والاهتمام بالتكوين القانوني المتين الذي يجمع بين النظري والعملي منذ السنوات الجامعية الأولى لتأهيل مهنة المحاماة وتوفير الكفاءات التي من شأنها أن تنهض بها؟ و إذا كنا لا نختلف حول تمرس المحامين في مجال اشتغالهم، فهل يمكنهم ذلك من الإجادة في مجال الدراسات والأبحاث، و هي اختصاص أصيل للجامعة حيث يمارس البحث العلمي، فهل يمكن إقناع طالب الخدمة بالقيام بدراسات من قبل محامين قانون هيأتهم يقصي حتى الحاصلين منهم على الدكتوراه من التفاعل مع الجامعة و مع البحث العلمي و يحرمهم من التعليم و التأطير، بذريعة الاحتكار و حماية الطائفة. وعلى ذلك فمهنة المحاماة مطالبة اليوم بالانخراط في البرنامج التنموي، بتجويد خدماتها وتأهيل ممارسيها وجلب كفاءات جديدة بانفتاحها على الجامعة وأساتذتها، كما هو الشأن بالنسبة لأغلب التشريعات العالمية الأخرى. فمن خلال جميع هذه الملاحظات والتساؤلات، ، وتماشيا مع أهداف إعلان مؤتمر مراكش حول استقلال السلطة القضائية وضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة، والمتمثلة في الارتقاء بشروط الولوج إلى المهن القضائية والقانونية، وكذا تأهيل الفاعلين في حقل العدالة من خلال الارتقاء بالتكوين الأساسي والرفع من مستوى التكوين المستمر وتوسيع مجال التكوين المتخصص لتعزيز الثقة في العدالة ومواجهة محدودية المؤهلات ونقص الكفاءات المهنية، و تنزيلا للمشروع التنموي الجديد الذي أراده جلالة الملك عقدا اجتماعيا جديدا ينخرط فيه الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيآت سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين، فلا بد أن يكون تقنين المهن المنظمة و من بينها مهنة المحاماة على مستوى التطلعات، و أن يستفيد من التجارب المقارنة لدول استطاعت مهنة المحاماة فيها أن تحتل مكانة مهمة في المساهمة في بناء اقتصادياتها و في ضمان الأمن القانوني لمواطنيها والمستثمرين فيها، وذلك لاعتمادها على تقنين المهنة في إطار منظومة متكاملة و ليس بمنطق الاحتكار و التضييق الذي يضر بالمهنة أكثر مما ينفعها. * أستاذة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ـــ عين الشق جامعة الحسن الثاني ـــــ الدار البيضاء

بنـور: الجمع بين التعليم الجامعي و المحاماة … ضرورة أم اختيار؟

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تعاضدية الفنانين برأسين

إنفاق 25 مليار درهم من صندوق "كوفيد 19"

مقالات ذات صلة