مناجم جرادة… سواد الموت

رائحة الموت تفوح من آبار فحم عشوائية أزهقت 49 روحا في غياب بدائل اقتصادية حياتهم بلون فحم تحجر على أجسادهم المنهكة، ويستمدون منه رغيفهم المر. في عمق أرضهم الأبية، ينقبون عن لقمة عيشهم، قانعين بنصيبهم من أرزاق ولو اختلفت وتباينت. لا يخيفهم الموت ومع أسبابه ومواجعه تعايشوا كما تعايشهم مع فقر زاد بإغلاق مناجم الفحم بقرار يراه حقوقيو المدينة سياسيا. قنعوا بالقليل وطمحوا للكثير دون حيل أخرى غير العمل في آبار فحم حجري برائحة الموت في جرادة الشاهدة على ميلاد أول نقابة ووعي نقابي امتد سنوات. كتموا غضبهم طويلا في نفوسهم ولم يجهروا بآلامهم إلا بعد تنامي سقوط ضحايا الرغيف الأسود وغلاء كهرباء وطاقة للمدينة الريادة في إنتاجها. إعداد: حميد الأبيض – تصوير: أحمد العلوي المراني (موفدا "الصباح" إلى جرادة) لم يكن ممكنا لجرادة أن تموت ببطء، لولا تراكم مشاكلها "ظلت تكبر ككرة ثلج بعد إغلاق مناجمها في عام 1998، دون إطلاق بدائل اقتصادية كفيلة بامتصاص بطالة أبنائها وتحقيق تنمية حقيقية" بتعبير بيان لفرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. والنتيجة موت أسود برائحة الفحم، وغضب متواصل. الموت الأسود الموت قدر ومصير، لكن طعمه مر بجرادة. بطيء في يوميات موتى في حياتهم، وسريع في عمق أرض تأبى أن تموت، لكنها تقتل الباحثين عن رغيف أسود تتفحم لأجله، أجسادهم دون حاجة إلى نار تلتهب بها أفئدة مفقوديهم في حوادث تدمي العيون نحيبا لم يهز عرش نافذين امتصوا رحيق مدينة ماتت ببطء. لم يكن جدوان وحسين الدعيوي أول ضحايا السندريات ولا آخرهم، ما دام الموت الأسود متربصا عن سبق إصرار بباحثين عن لقمة عيش بطعم العلقم وبلون فحم تحجر على أجسادهم، منذ تحجرت قلوب مسؤولين رهنوا مصير مناجم بجرة قلم محت قوت عيش مئات العمال أدوا ثمن وعيهم المبكر بحقوقهم. حصيلة عقد على إغلاق مناجم أنتجت 40 في المائة من الطاقة، ثقيلة اختلف بشأنها من عدوا رقمها المخيف من الموتى دون الجرحى والمعطوبين. عشرات الأرواح أزهقت مخلفة حصيلة ثقيلة من الأيتام والأرامل، دون أن يحرك ذلك حس الوطنية في مسؤولين يغريهم شعار "كم حاجة قضيناها بتركها". موت شهيدي "الخبز الأسود" أحيى غضبا خامدا رغم أن الحصيلة أضعف من موت 5 ضحايا في حادث آخر، وتوالي تساقط الأرواح كأوراق التوت دون أن تحرك رياح الامتعاض أحدا، كما قبل 4 سنوات لما توفي شابان ونقل سؤال الفريق الاشتراكي المعاناة للبرلمان طالبا تفقد آليات الترخيص لآبار الموت. حلم أحمد الزيدي رئيس الفريق، بزيارات ميدانية واجتماعات مع المجتمع المدني والمسؤولين المحليين والإقليميين، والبحث الجدي في آليات منح تراخيص التنقيب والاستغلال والتسويق ومدى احترام دفاتر التحملات مطابقتها لشروط السلامة والصحة. لكن الحلم تبخر فاسحا المجال لموت حصد مزيدا من الأرواح. مظاهر الموت للموت بجرادة عدة مظاهر وأشكال وتجليات، فهو ربما رحيم بمن خنقت أنفاسهم تحت أنقاض آبار الموت، وأكثر إيلاما لأسرهم فاقدة معيليها أو عمال تتربص بهم السندريات أو ينخر أجسادهم السرطان والسيليكوز والأمراض التنفسية الناتجة عن استنشاق غبار الفحم الحجري. ليست وحدها الحوادث والأمراض المهنية، ما يقتل أبناء جرادة، فالبطالة والفساد والبيئة الملوثة عناوين موت يومي متواصل يشكل "سرطانا يحوم أو يسكن كل البيوت" يقول محمد لعرج رئيس جمعية السلام، مؤكدا أن "المدينة ميتة محمولة على نعشها، سيما أمام استعمال مواد مسمومة بالمحطة الحرارية". للموت سبب ومنفذ مباشر على أضرار دخان وغبار مدخنات المركز الحراري الصيني الجديد والروسي الأقدم، وما يلفظانه من مياه ملوثة تهدد الأرض والشجر والإنسان، وليس فقط آبار موت متباعدة "نزولها بلا عودة" برأي لعرج الذي طالب بالتعويض عن تلك الأضرار البيئية وتعويض موتى ومعطوبي السندريات. ذاك حلم أبناء الإقليم كما رغبتهم في بدائل اقتصادية للمناجم المغلقة، تعفيهم شم رائحة الموت في حياتهم وتفتح في وجوههم سبل عيش يصون كرامتهم الممرغة في سواد فحم بصلابة الحجر، ووحل تراب غير صالح إلا لإنبات الشيح عشبة متراقصة على مواجع مدينة جريحة وسكان أظناهم انتظار تنمية حقيقية. "كل مرة تطيح روح. هدي جرادة راها تسوط عليكم بحمم بركانية قبل ما يفوت الفوت" مقطع من أغنية أبدعها ابن المدينة حفيظ العمراوي وتحمل رسائل مشفرة لمن يعنيهم مستقبل جرادة المنسية والمهمشة، أو "المدينة كانت زاهية بكري ودابا حفرة منسية" وناسها "بغاو الخبز وعيشة مرضية" بتعبيره. حادث مؤلم يوم الحادث المؤلم كان الأب المعتل في شرايين قلبه، طريح الفراش بالمستشفى يتلقى العلاج، لما توجه ابناه صباحا كعادتهما منذ عدة سنوات بحثا عن فحم مصدر رغيفهما الأسود. لا أحد أخبره بوفاتهما تحت أنقاض سندرية أو "الحاسي" بتعبيره، إلا بعد انتشال جثتيهما خوفا على "ما تبقى من صحته". "مشاو يخدمو باش يوكلوني وأولادهم. لكنهم ما رجعوا. قدر عليهم ربي يموتوا" يحكي الأب المكلوم، مضيفا بنبرة شرقية حزينة "قسوا لي ركابي، ما بقا لي اللي يخدم علي" و"الدراري مشاو وخلاو لي غير الزلط. راني حابس ما كاين اللي يخدم علي الله غالب. نطلب من المسؤولين يدبرو علي وين نكون". حال أبي الضحيتين يبكي من بقلبه ذرة شفقة، لمرضه وفقره و"العينين عميين والصحة باركة. غادي نبقا فيد الله. راني مكمل ما كاينش اللي يعتقني" برأيه، مؤكدا عدم تلقيه أي دعم مادي، قبل أن تنوب الدموع المنسكبة على خده، لإتمام دردشة كشفت درجة اعتصار قلب أب فقد ابنيه ومعيليه ومصدر عيشه. لهذا الرجل 13 ابنا وابنة من زوجتين، بدون دخل قار، وينتظر التفاتة إلى حاله المزري، أما أرملتا "شهيدي الرغيف الأسود" فوعدتا من طرف منتخبين ومسؤولين، بشقتين وتعويض مادي/ واجبا للعزاء ولمساعدتهما على إعالة أبنائهما الثلاثة، في أول التفاتة رسمية لضحايا "الموت الأسود" في آبار الفحم. مهما كانت الالتفاتة وحجمها، فإنها لن تعوض عائلة في معيليها كما عائلات أخرى فجعت لفقدان أبناء ابتلعتهم أرض وجدوا في عمقها ما لم يجدوا فوقها من بدائل عن العيش من سواد الفحم، بعد الأزمة التي عاشتها المدينة بعد إغلاق المناجم قبل نحو عقد، وإغلاق الحدود وسبل العيش من التهريب على علاته. رائحة الموت بحي المسيرة، منبت شرارة الغضب، مظاهر البؤس والشقاء جلية حتى في سحنات نساء انهمكن في تنظيف ملابس أسرهن في ماء غير صالح للشرب، أبدين كرما حاتميا لزوار باحثين عن رائحة الموت في آبار ابتلعت أرواحا كثيرة، وما زالت شهيتها مفتوحة لقتل المزيد إن لم يحرك شبح موت مخيم، ذرة الرحمة في قلوب مسؤولين غافلين. المكان مقرف شاهد على جرح عميق لم يندمل في قلوب أقاربهما المكتوين بفراقهما المؤلم بعيدا عن منزليهما بحي بوعبيد البكري العشوائي القريب من الحي الأوربي المتآكلة منازله كما تلك القريبة من المركز الحراري شبه المهجورة من مستغليها اختاروا التنقل اليومي إلى وجدة بحثا عن فضاء أفضل للعيش. زوال الجمعة بدت الطريق إلى منزلي أرملتي "شهيدي الخبز المر"، ضعيفة الحركة إلا من تجمع شباب يناقشون مآل الحراك، مستلذين بشمس أدفأت أجسادهم وآمالهم، وسيارات إسبانية الترقيم، مركونة قرب منازل عشوائية البناء بعضها مهدم، لأبناء الحي ممن هجرتهم البطالة قسرا بعد انسداد آفاق الشغل. أجواء الحزن مخيمة على هذا الفضاء ومنزل الأب المشرع على مصير مجهول بعد فقدانه ابنين أعالاه طويلا. وجوه الجميع يعلوها الحزن، إلا أطفالا يمرحون ويتقافزون بمن فيهم ابن أحدهما الصغير، دون أن يهتدوا لسر زيارة الغرباء لتقديم التعازي أو النبش في أصل موت أفقدهم قلبا حنونا وصدرا حاضنا. استياء "بقالي 21 سنة عايش فهذ العش مع الكلاب" يرد بعصبية مفرطة حارس سندريات متقاربة بغابة على الطريق بين جرادة والعيون، حاول صد زائرين غريبين قبل أن يتفاعل بحماس زائد مع فضولهما، كاشفا صورا صادمة في حياته تركت ندوبا في نفسيته، بينها انتحار قريبه حرق نفسه ضدا على إفراغه. التذمر والاستياء، موجودان حيث توجد السندريات وجهة باحثين عن رغيف عيشهم الأسود بمن فيهم مسنون تآلفوا مع سواد أحلامهم وسط آبار الفحم، كما بلال بوسخروط المتقاعد بمعاش لا يتجاوز 900 درهم، الباحث عن دراهم بلون بشرته، ل"تكملة" جزء من حاجيات أبنائه الستة نصفهم فتيات. ولأجله يجند أبناءه الذكور، أحدهم حاصل على 3 ديبلومات، لمساعدته على تدبر ظروف عيشه الصعبة وفي عمل أكمل عقدين فيه، و"ما زال كنهبط للحاسي" بتعبيره، لأنه "لا بديل لنا عنها" و"منين نعيشو" تساؤل حرك في زميله رغبة الجهر بآلام داخلية عزف عن البوح بها في بداية لقائهما بالغريبين. حاول هذا الرجل المريض بالسيليكوز، المرض المشترك بين كل عمال مناجم الفحم بجرادة، النزول لقعر بئر بعرض مترين وعمق فاق ستين مترا، ما لم يتحمس له مجالسوه، قبل أن يشرع في التباهي بمعرفته الدقيقة بآلة "المونساج" لإخراج الحمولة و"الجرارة" للبشر كاشفا عن أصبعه المبتور في حادث عرضي. حماسه ذوبه زميله البشير بوزرزاد، الأب لخمسة أبناء عاطلين، يعيلهم شقاءه في أعماق "الحاسيات"، بعد نبشه في آلامه ومرضه، ما أحيى جرحا غائرا وغير ملامح وجهيهما إلى درجة تكهربهما باسترجاع شريط مواجع عاشاها، متحدثا عن 49 قتيلا في آبار الفحم، عايش قصصا مؤلمة لوفاتهم وحياة أراملهم. دموع امرأة لم تتمالك نفسها في سردها لصور حياتها المؤلمة منذ وفدت على جرادة رفقة أختها المتزوجة وعمرها 7 سنوات فقط، فأدمعت عيناها الذابلتان لتمتزج قتامة "كحل" بسواد غبار فحم حجر قلبها اللين، راسما على وجهها لوحة بؤس حياتها بحثا عن قطع المادة الصغيرة في ركامها بمغسل المركز الحراري المهمل. لتدبر تكاليف دراسة ابنها الطالب بالسنة الثالثة بجامعة وجدة، غير ممنوح، قبلت بالتنقيب بين بقايا الفحم عن لقمة عيشها بعد تنكر مطلقها لواجب الإنفاق على فلذة كبده، لزواجها من ثان بمدخول محدود، ويغار لدرجة عيشها رعبا خوفا من نشر صورها مكشوفة الوجه ب"فيسبوك" لأنه "يبات شاد التلفون". لم يظهر من وجهها إلا العينان، وهي تتحدث عن حياتها المبكية لسامعها بشكل حرك مواجعها فأجهشت بكاء للتخفيف من ضغط وحدها العالمة بحجمه وسببه، بعدما جلست القرفصاء وسط سواد مغسل أتلفت كل تجهيزاته عن سبق إصرار. تخريب المغسل الممتد على مساحة مهمة قبالة مقر الأمن ونهب تجهيزاته وقاطراته، بدا واضحا ميدانيا كما خراب أسواره، ما اعتبره محمد الوالي عضو مكتب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بجهة الشرق، "محو ذاكرة المدينة" شمل أيضا السكة الحديدية وبعض المنازل ومنشآت مرتبطة بالامتداد العمالي. "كرهت راسي. صحتي مشات هنا. يوجعني القهر" كلمات مؤثرة نطقت بها تلك الأم المتفانية في توفير تكاليف عيشها ودراسة ابنها، وتنطبق على حياتها وحال المكان ومواقع ومنشآت أخرى، بما فيها ركام الفحم الراسم لوحة الشموخ بمدخل المدينة، لكنه يشكل وصمة عار ويحتاج استغلالا معقلنا. "اخدم يا التاعس على الناعس" "خدم يا التاعس على الناعس" مثل شعبي ينطبق على عمال آبار عشوائية لاستخراج الفحم الحجري في تويست وحاسي بلال وجرادة وضاحيتها. يقضون ساعات طويلة قد تفوق العشر، مدفونين تحت الأرض على عمق يفوق أحيانا 100 متر، لأجل ربح ضعيف يضاعفه محتكرو تسويقه، 8 مرات وأكثر. "نقضي ساعات في الحفر في غياب شروط السلامة، لجمع 10 أكياس على أكثر تقدير، كي نكسب 60 درهما في أحسن الأحوال" يقول عبد العزيز دعوي ابن دوار بوعبيد البكري، ساردا مخاطر محتملة في عمله الصعب ومعاناة العمال مع مصالح المياه والغابات، لكنه راض بواقعه في غياب بديل يدفئ جيبه. من كلامه تستشف "حرقته" على مآل جرادة ليست "مالحة" أغنية غناها الفنان الملتزم صلاح الطويل في حفل نظمه عمال مناجمها في تسعينات القرن الماضي، لكنها مرة و"حامضة"، متأسفا لتقلص فرص الشغل واستنجاد المركز الحراري المبني من طرف الصينيين بأبناء بلدهم، دون أن ينعش ذلك اقتصادها. رغم خيبته فهو مؤمن بنظرية "توزيع الأرزاق" ولو كان غير عادل، ولو كانت رائحة الموت منبعثة من مصدره، كما يتذكرها زميله المهدي علاي، واحد من الناجين من حادث مأساوي مماثل وقع قبل 6 سنوات وخلف قتيلا و3 معطوبين، بعد انهيار بئر فوق رؤوسهم، قريبا من المركز الحراري القديم. مثل هذه الفواجع وإنقاذ ضحاياها، امتحان حقيقي لوقاية مدنية لا تتوفر على إمكانيات حديثة ومتطورة لإنقاذ مثل تلك الأرواح، في عمليات إنقاذ أبطالها عمال اكتسبوا خبرة كبيرة في الحفر والاحتياط لانتشال جثث زملاء لهم ذاقوا من مرارة كأس واقعهم الشبيه ب"عيشة الدبانة فالبطانة" برأي ناس الغيوان.

مناجم جرادة… سواد الموت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مدن فوق براميل بارود ... الشعب "ما يتشرط" والدولة "ما تفرط"

مدن فوق براميل بارود ... جهتان تهيمنان على نصف الثروة

مقالات ذات صلة