بورتري: محمد مفيد … قلب مفتوح للرواية والقيم الجميلة

تستطيع لمس القمر بيديك، لكن تعجز عن سبر الأغوار العميقة لمحمد مفيد، المصحح اللغوي ب"الصباح"، فهيأته وحركاته تجعلانه لغزا محيرا حتى للمقربين منه.. إنه أبو فريد صاحب قلم الحبر الأحمر، والذاكرة الحبلى بالمعلومات والسخرية والقيم الانسانية النادرة. يشرد قليلا، وحين تقتحم عالمه تصعقك طيبوبته وعفويته وحساسيته المفرطة من كل شيء تقريبا، نزيه بالمعنى الإنساني حتى تخاله كائنا أسطوريا بعث فجأة ووجد نفسه يصارع في صمت "العبث" ويتهكم على النفاق ويطرد المنافقين المزيفيين.في حياة مفيد مراحل تستعصي على الفهم، لكنها تكشف عمقا إنسانيا يمزج الأحاسيس الرقيقة بعنف الحياة وقساوتها، فهو مرهف جدا، ويتأثر بسرعة، ويملك قوة كتم غيظه.. يتضايق، أحيانا، فيخفي تذمره خلف نظارتيه الطبيتين، ويتمسك بالأمل في حياة طاهرة لا كذب فيها ولا إدعاء ولا غرورا، وحين يتحدث يبدو مثل شيخ يسرد لأقرب المقربين منه نظرته إلى الحياة.لا أحد تخيل مفيد، يوما، دون كتاب أو مجلة نادرة أو دفتر قديم، فهو متطرف في القراءة، ونهم لا يشبع من صفحات الكتب حتى لو تغيرت ألوانها إلى الصفرة، فعشقه للقراءة لا ينضب أبدا، وأزهى فترات حياته يقضيها بين المكتبات بحثا عن رواية جديدة أو قديمة، لا يهم، يريد تذكر تفاصيلها أو يجول بين معارض الكتب حتى أن شقته ضاقت ذرعا بالمؤلفات، ولولا صبر زوجته وهمتها في جمع أطنان الكتب للقي حتفه، مثل الجاحظ حين هوت على رأسه أمهات الكتب.ليس في الأمر مبالغة، فكل أصدقائه القدامى والجدد يقسمون أنه يحفظ أسماء المؤلفين العرب والأجانب، وعناوين رواياتهم وتاريخ ازديادهم وشجاراتهم، ولحظات فرحهم وأوسمتهم وجوائزهم العالمية، بل يسرد أسماء المكتبات العالمية والكتب الممنوعة والمباحة.. إنه مجنون الكتب يقرأ كل شيء تصادف عيناه، وحين يمل من رتابة المكتبات يبحث عنها في الأزقة الضيقة والقيساريات.. المهم أن يقرأ حتى لو كفت الأرض عن الدوران.لا يكتب إلا نادرا، رغم أن أسلوبه الجميل كما كشفت عنها أعمدة قليلة بجريدة الأحداث المغربية، فهي تفوق جمالا ورقة وعذوبة أشهر الصحافيين، وحين تسأله عن رفضه الانتظام في الكتابة يجيب بتواضع من وراء ملامح وجهه القاسية: "لم أصل إلى مستوى الكتابة، فأنا مازلت أقرأ"، والله وحده يعلم متى تنتهي قراءته.هو أيضا عاشق للأكل، لولا أعطاب المرض المفاجئة، ويتلذذ كثيرا ب"البيصارة" عند أشهر الطباخين بدرب السلطان، ويحب أكل اللحم المفروم والكبدة والقطاني، ويستمتع بالفواكه، قبل أن يبتلي، في السنوات الأخيرة ب"دانون".. إنه أكول، إلا أن عامل السن أثر في معدته وجعله يضع، نوعا ما، حدا لهذا الجوع الغريب.أحسن مكان في العالم عند مفيد درب السلطان بالبيضاء، إذ يجلس في مقاهيها ويفتح كتابا للقراءة غير مبال بالضجيج والصراخ والمشاجرات، ويقتني من هناك الجرائد حتى تلك التي لا تبيع إلا بضعة أعداد، ويسترخي مثل محارب حين يشرب فنجان قهوته السوداء.يمشي دائما بسرعة، مثل قطار ينفث دخانه في السماء، وقلما يتفت حواليه، إذ لا يأبه بما يدور حوله، فهو دائما "ضد الساعة"، حتى لو كان متجها إلى مطعم أو سينما، فهو أيضا من هواة السينما وتفوق ثقافته فيها أشهر النقاد السينمائيين، لكنه يفضل إخفاءها عن أعين الحساد.صاخب في لحظات صفائه، ويطلق ضحكة تفوق قوتها زلزال اليابان، لكنه يخفيها في مقر العمل حتى يضيق بها صدره.. حنون ينفق ماله على غيره رغم حاجته، ووفي لا يغدر أبدا، إنه مفيد بالنسبة إلى من لا يعرفه.. غريب وسط الانتهازيين، حسب قول أحد أصدقائه... أعلم جيدا رد مفيد بعد قراءة هذه الأسطر، إذ سيدعي أنني بالغت أو هكذا سيخيل له، لكن أصدقاءه سيحملونني ذنبا كبيرا بأني لم أوف الرجل قدره. خالد العطاوي

بورتري: محمد مفيد … قلب مفتوح للرواية والقيم الجميلة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الجريدة التي تنأى عن الإثارة والشعبوية والابتذال

"الصباح.بريس.مَ"..ستة ملايين متصفح

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات