الجريدة التي تنأى عن الإثارة والشعبوية والابتذال

إن الصحف التي تنجح، خاصة منها اليومية، تعطي الانطباع أنه لا يمكن أن تشرق شمس يوم جديد دون أن تكون هي مفتتحه، ويمكن إدراج يومية «الصباح»، وبامتياز، ضمن هذا الصنف من الصحف.وبغض النظر عن رقم المبيعات الذي تحققه هذه الجريدة، والذي تنامى منذ أربع سنوات تقريبا بمعدل يصل إلى حوالي 70 ألف نسخة يوميا، فإن جولة قصيرة بمقاهي المغرب (حيث تستهلك الصحف بكثرة) تنبئ بالموقع الذي أضحت تحتله «الصباح»، سواء على مستوى المبيعات، أو السريان (استنادا إلى معدل تداول النسخة الواحدة بين قراء عديدين، وكذا قراءة النسخة الإلكترونية على الويب)، أو النفاد (وقت القراءة الفعلي، وعدد المواد المقروءة).لقد اختارت «الصباح» منذ البداية خطا تحريريا واضحا، ومتميزا بالثبات. وهو أمر مهم للغاية، لأنه يضع أسس تعاقد شفاف مع القارئ. ولعل أهم ما يسم هذا الخط التحريري هو الابتعاد ما أمكن عن شواغل الإيديولوجية الضيقة والفئوية التي غالبا ما تكون ضربا من الملهاة الاجتماعية ليس إلا. وربما هذا الأمر مرتبط بالظروف التي ولدت فيها هذه الجريدة، بعد أن مهدت يومية أخرى هي «الأحداث المغربية» لنمط من الصحافة لم يكن معهودا من قبل بالمغرب، إذ أصبحت قيمة الصحافة اليومية ترتبط بقدرتها على رصد المعلومة، وتعقب الخبر، وتبني التحري كمنهجية للعمل. وما يمكن تثمينه هنا، أن «الصباح» لم تستنسخ أي تجربة سابقة عليها، بل قدمت تجربة مغايرة داخل حقل الصحافة اليومية المستقلة (غير الحزبية)، واختطت لنفسها، في الوقت ذاته، أسلوبا لا يخلو من مهنية.وطبعا، تظل لكل جريدة خياراتها التحريرية، وهذه حسنة حتى لا تبدو الجرائد متشابهة، وحتى تتاح فرصة تأسيس تعددية إعلامية كما هو مطلوب في النموذج الليبرالي للإعلام. ولا شك أن قراء «الصباح» واعون بالخيارات التي تقترحها عليهم جريدتهم، وهو ما يعني أن المسؤولين عليها يعون بدورهم الانتظارات المتنوعة لهؤلاء القراء. فالمساقط التي يمكن أن تزل إليها أقلام صحافيي المؤسسات الإعلامية المكتوبة الخاصة، معروفة ونذكر منها: الإثارة والشعبوية، والتفاهة والابتذال، وتبني خطابات فوقية ومؤدلجة. ولا شك أن قراء «الصباح» يشعرون بأن الجريدة تنأى عامة بنفسها عن هذه السلوكات والعثرات التي من شأنها تبليد الحس النقدي لدى القارئ، وإيهامه أنه ينتمي وجدانيا إلى سلطة تمده بأسباب فهم المحيط من حوله، في حين أنها توجهه إلى أولويات قد لا تكون بالمنظور التاريخي أولويات المرحلة.وبهذا المعنى، لو عمدنا إلى تقسيم عناوين الصحف المغربية إلى جادة وغير جادة، لألحقنا دون تردد «الصباح» باللائحة، القصيرة جدا، للصحف الجادة بالمغرب.وما يسترعي الانتباه حين مقارنة «الصباح» بيوميات مغربية أخرى، هو تنظيمها للمادة الإعلامية بشكل سلس ووظيفي، خلافا لجملة من العناوين التي تبدو موادها، وإن كانت جيدة، عسيرة على الهضم، لتداخلها أو لارتباك نسب النصوص، والعناوين، والصور داخلها. ومعلوم أن هيكلة الجريدة وإخراجها لا يمكن أن يخرج عن التصور العام للسياسة التحريرية. وتظل «الصباح « اليومية الأكثر تميزا على مستوى استواء شخصيتها البصرية، وكذلك استقرارها.ولا بد في هذا الباب، من التذكير بأن «الصباح» فطنت ومنذ الوهلة الأولى إلى أهمية الصورة الصحافية، وهو أمر تعزز في ما بعد بدليل أنها حصلت على أكثر من جائزة في هذا المجال. وينم الإحساس بالصورة وإعادة تثمينها صحفيا، عن تصور ذكي للزمن النفسي للقارئ لدى القائمين على «الصباح»، ووعي بمداخل القراءة التي يمكن أن تستحثه لتمديد فعل القراءة، من أجل استفادة قصوى من المادة المقترحة. وتوظف «الصباح»، عن وعي دون شك، الصورة في الصفحتين الأولى والأخيرة كبؤرة للقراءة. وهو منهج جيد في إقامة جسور بين مكونات المادة الإعلامية، مما يعطي الانطباع بالتناغم وباستكمال العدد لمادته (إطفاء غليل القارئ إخباريا وجماليا).هذه الصنعة/المهنية في الصباح، والتي تعني في النهاية «الوصول إلى عدد قراء أكبر بمواد أقل» -لكنها مستوفية لشروط المنتج الصحافي- تعد بديلا لإغراق القارئ بالمعلومات والأخبار والمعطيات المختلفة بما يجعله عاجزا عن استلهامها لتفسير محيطه، وتكوين صورة واضحة عنه.ومن مؤشرات دينامية «الصباح» أنها تهتم اهتماما بالغا بتطوير مهارات صحافييها، سواء عن طريق التنشئة الداخلية، أو التكوينات التي تمت برمجتها بإشراف خبراء خارجيين. كما أنها تشتغل بمجموعة من المدققين والمصححين اللغويين لا يوجد نظير لها في هيآت التحرير الأخرى المشتغلة باللغة العربية. وقد وضعت رئاسة تحرير الصباح، فضلا عن بصماتها الواضحة في مادة الصحيفة، أنظمة مبتكرة لتحفيز صحافييها على العطاء المتميز ومكافأتهم بشكل يبدو معه جليا هاجس تثمين الاستحقاق. وقد أضافت الصباح، منذ فترة، ضمن تبويبها «الصباح الثقافي»، وهو دليل آخر على أن هذه الصحيفة التي بصمت المشهد الإعلامي المكتوب بالمغرب في تطور مطرد. ولا شك أن القائمين عليها يتفحصون الآن الحراك الاجتماعي الجديد (العربي والمغربي) من أجل تكييف خط تحرير الجريدة مع ما يستدعيه هذا الحراك من تكيف، يحقق فعل المواكبة، ويستشرف في الوقت ذاته آفاق الممارسة الديمقراطية بالمغرب. بقلم: عبد الوهاب الرامي: أستاذ بالمعهد العالي للصحافة

الجريدة التي تنأى عن الإثارة والشعبوية والابتذال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"الصباح" تكـرس مـسلـسل الـتـتويجات

بورتري: محمد مفيد ... قلب مفتوح للرواية والقيم الجميلة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات