التـرجمة فعـل مزاجـي

الناقد صلاح نيازي يتحدث عن ملحمة "جلجامش" وخروج العراقيين من أجل محمد الخامس قال الأديب والناقد العراقي صلاح نيازي إن إعادة ترجمة نصوص مترجمة سابقا إغناء لها ومؤشر على ظهور معان جديدة فيها، وأضاف صاحب ديوان «الصهيل المعلب» في حوار خص به «الصباح» على هامش معرض الكتاب، أن أغلب المفردات الأجنبية في القرآن أصولها سومارية، كما تحدث صاحب «الاغتراب والبطل القومي» عن اشتغاله على ملحمة «جلجامش» وعلاقته بالمغرب وأشياء أخرى تجدونها في هذا الحوار. < في سياق اشتغالك على الترجمة، الملاحظ أن أغلب النصوص التي اشتغلت عليها سبق أن ترجمت في ما قبل، هل معنى هذا أنك توجه نقدا ضمنيا لمزالق الترجمات السابقة؟ < إعادة الترجمة شيء مقبول في الأدب الانجليزي، رأيت مثلا اعترافات لأحد الكتاب مترجمة اثنتي عشرة مرة، لأن كل إنسان ينظر إلى النص نظرة مختلفة، وهذا إثراء للنص. شيء آخر هو أنه إذا ظهر نص في تاريخ ما فهناك نظريات نقدية ونفسية في ذلك الزمن بعد فترة تظهر نظريات نفسية جديدة نفهم النص السابق على ضوئها، وهكذا كلما مر الزمن نقرأ المتنبي، مثلا، بشروح مختلفة، أو نقرأ الآيات القرآنية بشروح مختلفة، فهذا إثراء وليس جريرة يحاسب عليها المترجم. ما ترجمته ليست روايات هينة أو مسرحيات مبسطة، وإنما قمم الآداب العالمية، وإذا خلت أمة من الدقة في الترجمة لا نكون قد واكبنا التطور الحضاري، وسيكون فهمنا للحضارة ناقصا بدليل ترجمتنا، وما قامت أوربا إلا على الترجمات الدقيقة نسبيا، وأضرب لك مثلا أن القساوسة الإسبان قاموا بترجمة أمهات الكتب العربية بدقة حتى لو كانت ضد مبادئهم، لأنهم يعرفون أن الفكر له وسائله الموضوعية للانتشار، فعلى هذا الضوء تكون إعادة الترجمة عملية إثراء ودلالة على أن هناك نظريات جديدة جدّت في علم النفس وعلم النقد فظهرت معان لم تكن واضحة أمام مترجمين آخرين. < هل يمكن الحديث عن أشكال متعددة للترجمة ما بين الأسلوب الكلاسيكي والطرق الحديثة في الترجمة؟ < الترجمة اجتهاد فردي، هناك آلاف المدارس التي تدرس اللغة العربية لكن الأدباء قلة، عباس محمود العقاد مثلا لم يدرس اللغة العربية مثل ما درسناها نحن، لكنه مع ذلك نبغ في الكتابة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مهدي جواهري فهو قرأ وتمتع وتمثل الكتابات، وأنا أعرف كتابا إنجليز لم يدرسوا الأدب الانجليزي ولكنهم نبغوا، فتدريس اللغة العربية ليس بالضرورة لإنتاج أدباء، كذلك الأمر بالنسبة إلى الترجمة، فهناك مدارس فيها، لكن خبرني عن أي مترجم عظيم في إنجلترا درس الترجمة، فهي تمثل فردي خاص مثل ما يقع للأم التي ترضع وليدها بالطريقة التي تناسبه وتناسب صدرها، فمهما أعطيتها من كتب في كيفية إرضاع الطفل فإنها ترضعه بطريقة أخرى. < أريد أن أثير معك نقطة تتعلق بالترجمة سبق أن طرحها مفكرون آخرون، منهم المغربي طه عبد الرحمن، وهي أن التلقي العربي للتراث اليوناني الذي تم عن طريق الترجمة، تم باعتماد ترجمات تخللتها أخطاء قاتلة شيدت عليها أنساق فلسفية جعلت الفلسفة العربية الإسلامية تخطئ طريقها؟ < أعتقد أن هناك مبالغة في الموضوع، ولعل من قال هذا كان منتشيا بالاكتشاف، وحتى يقنع الآخرين، بدأ يبالغ في أنه توجد أخطاء كبيرة أضرت بالفلسفة، ففي العصر الرابع الهجري، لم يكن العرب والمسلمون بحاجة إلى فلسفة عميقة، لكن الترجمة أيا كانت ضعيفة أو معطوبة، نبهت العرب إلى أن هناك فكرا آخر موجودا، إلى جانب الفكر الديني، وهذا شيء جيد لحيوية المجتمع وهذا ما حدث فعلا. < أتحدث هنا عن الترجمة فعلا تقنيا، هل كانت للعرب معايير موضوعية لتقييم دقة نقل النصوص الأجنبية إلى اللغة العربية؟ < الأوربيون يريدون أن يظهروا أن جذورهم ممتدة في الأدب والفلسفة الإغريقية وليست في الآداب القديمة للسومريين والبابليين والآشوريين، فكل الفلسفات والنظريات الدينية تحدرت من هذه الحضارات السابقة على الإغريق. هناك كتاب لمؤلف عراقي مقيم بمراكش اسمه بهاء الدين الوردي حول «رموز القرآن» (في أربعة أجزاء) وأثبت أن معظم الكلمات الأجنبية في القرآن ليست فارسية وليست يونانية وإنما من أصل سومري، ولدي أمثلة كثيرة على ذلك، مثلا لغة قوم نوح سترى الكلمات والصور الدينية وفكرة الطوفان الموجودة في التوراة موجودة أيضا في ملحمة «جلجامش». بالنسبة إلى الترجمة كيف تقيس الدقة فيها؟ ما هو معيارك لوزن الأمانة في الترجمة؟ مثلا هناك مترجم اسمه مايكل هامبرغر ترجم قصيدة للشاعر الألماني هولدرلين ثلاث مرات، مرتان نثرا وكانت كل واحدة مختلفة عن الأخرى، والثالثة شعرا وهي أيضا مختلفة، هنا أين تقيس الأمانة والدقة في الترجمة، فهو المترجم نفسه والنص نفسه، فالمترجم الأول بالتاريخ «شين إيقي أونيني» لملحمة «جلجامش» إلى الآشورية، ووضع النص الكلداني على جانب والنص الآشوري على جانب آخر، وقدم وأخّر وغيّر حسب الذوق الآشوري. المدرسة الإنجليزية في الترجمة تتغير باستمرار، فمثلا آخر ترجمة لكتاب «ألف ليلة وليلة» قام بها شخصان وقالا في المقدمة إن الرواة في المقاهي المصرية حينما كانوا يروونها يغيرون من ليلة إلى أخرى النص نفسه، ويعتمدون السجع بهدف إبطاء حركة السرد فيها، وأنهما ترجماها من جديد لإزالة السجع فيها وتسريع الإيقاع، حتى تناسب القارئ الإنجليزي. < بهذا المعنى يمكن أن نقول إنه لا توجد هناك نظرية ثابتة في الترجمة؟ < نعم لا توجد نظرية ثابتة، فهي تتغير من نص إلى آخر، أو أن الترجمة في الصباح تختلف عنها في الظهر أو المساء، وترتبط بالمزاج الخاص للمترجم وكيفية تفاعله مع النص. < في شق من مسارك الأدبي والبحثي ارتبطت بأدب الاغتراب، انطلاقا من تجارب شخصية أيضا، ما الذي يمكن أن تقول لنا بهذا الشأن؟ < بمجرد ما تحدثت عن الاغتراب تدفقت برأسي موضوعات كثيرة، فهناك اغتراب جغرافي واغتراب ثقافي، فالهاضم للثقافة العربية والقادم من بيئة المتنبي، كيف يتعامل مع شكسبير، هذا الاختلاف في المفردات والصور الشعرية قد يكون مفيدا جدا، وأفضل الأدباء من اغتربوا، الغريب أن بعض الآراء تطرح بتشاؤم، أنا قلت سابقا ليتني أمتلك الشجاعة لأقول بودي أن يغترب الجميع، سيما الأدباء، لا بد من لغة جديدة للتلاقح، فهو يمنح للأديب إمكانية إغناء رصيده المعرفي والثقافي. < في كتابك «فن الشعر في ملحمة جلجامش» عدت للاشتغال على هذا النص الملحمي ما محددات هذه العودة؟ < التقيت بملحمة «جلجامش» باللغة الإنجليزية، وحينما قرأتها انبهرت بها، فاعتبرتها مرآتي رغم إنجليزيتها، فطريقة الكلام وحكي الشعر وأسلوب التكرار وحتى التشبيهات نفسها تشبيهاتنا في مدينة الناصرية العراقية التي كانت تسمى قديما «أور»، وفيها ولدت هذه الملحمة، كما قرأت ما كتب عنها الشاعر النمساوي ريلكه حين قال إنه لم يستطع النوم من قراءتها، إذ اندهش لهذا النوع من الشعر، فعدت إلى قراءتها باللغة العربية في ترجمة للدكتور طه باقر، ووجدت أنه ترجمها عن الإنجليزية، فصدرت الترجمة في طبعتين، أما في الثالثة فقد تعلم السومرية وأعاد الاشتغال عليها من جديد، لكن ترجمته كانت ترجمة علماء وليست ترجمة أدباء مبدعين، لهذا حاولت، بتواضع، فأخذت القصة فصلا فصلا فأشرح للقارئ ثم أكتب النقد، باعتماد العديد من الترجمات، لم يكن قصدي ترجمة الشعر وإنما الاشتغال على الصور الشعرية. أجرى الحوار: عزيز المجدوب

التـرجمة فعـل مزاجـي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المجلس العلمي الأعلى يضع ضوابط التمويلات البديلة

الأمن في امتحانات إدماج حاملي الشهادات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات