كأنه يقف على الطرف الآخر من الجسر المنهار، ويشير إلى الآخرين بالعبور إلى ضفته الآمنة، هكذا تتصور عائلات وأقارب محتجزي بويا عمر خطة الوزير الحسين الوردي، الذي بدأ في كنس مستشفيات عبر منها هؤلاء سابقا، وتوسيع المطابخ لتحتضن أَسرة إضافية، وشحذ همم أطباء مرهقين، ويبحث عن بقايا إرادة في ممرضين مسنين، لعلاج مرض عضال في مراحله الأخيرة.وكأنهم استأصلوا الرحمة من قلوبهم، ونفضوا ذاكرتهم من سنوات عاشوها مع أبنائهم أو أشقائهم، ليلقوا بهم، بعد أن خذلتهم صحتهم العقلية والنفسية، في بيوت /معتقلات سرية وعلنية، ويقبلوا بتكبيل أياديهم، وبترويضهم كما تروض القرود والكلاب، وبتحويلهم إلى عبيد يقضون سخرة أسياد بويا عمر.هذا جزء من خلاصة سقطت في الهاوية بين طرفي الجسر المنهار، وخلف دويها سؤال: ما البديل؟ خاصة أن الوزير يعرض حلا جربته العائلات لسنوات، وألبسه الوردي اليوم زي "مبادرة الكرامة" في حين تطالب الأسر ب"مبادرة كفالة".ضحى زين الدين استسلم للجنون والجيران يتصورونه مثل "بيتبول" توقفت السيارة، وقبل أن توقف هدير محركها، أسرعت بالخروج، امرأة في السبعينات من العمر، هزيلة، تمددت على وجهها الهموم، ثم خرج رجل آخر، وبدا أنه منزعج من رفض المريض ترك مقعده في السيارة، يدفعه من الداخل شخص ثالث ويجره الثاني من الخارج، فيما تتوسل العجوز إلى ابنها ليخرج، ثم تعده بأن يفكوا قيده حالما يطيعهما.تلك لحظات مازال محمد يحتفظ بها من حياة ابن الجيران، الذي أصيب بمرض عقلي، في ديار المهجر وعاد إلى مدينته معتلا، لتعاني أسرته سنوات في محاولة علاجه، قبل أن يمزق آخر أوراق العقل ويستسلم للجنون، ويصبح موضوع شكايات الجيران والمارة، الذين يتصورونه مثل كلب "بيتبول" طليق.أنزل سعيد من السيارة بعنف. لأول مرة يمتحن مريض القوة البدنية لغلاظ بويا عمر بهذا الشكل، إذ "كان قويا ولم يؤثر في قوته مرضه العقلي، لذلك لم يكن يسهل التحكم فيه إلا بصعوبة كبيرة" يقول ابن الجيران، وهو يتحدث عن الشاب، الذي كان محبوبا في أحد دروب عين الشق بالدار البيضاء، "هاجر إلى إيطاليا، وحين كان يعود يحمل الهدايا للجميع. خاصة أنه في ذلك الوقت كانت الهجرة إلى أوربا كالهجرة إلى الجنة. ولم يحدث أن عاد يوما عبر الطائرة، بل يجلب في كل مرة سيارة مختلفة تسلب عقول شباب الدرب". يدفعه الرجل بقوة، يتعثر، لكنه لا يسقط. يتبول في سرواله، ليس خوفا ولكن "ليعاندهم"، يقول ابن الجيران، وصديق طفولة سعيد. نظرة سكان العطاوية إليه محايدة، كأنهم ألفوا مشاهد التعذيب والقسوة التي تمارس عنوة على مرضى بويا عمر، في محاولة لتطويعهم وترويضهم. يسير بصعوبة، السلاسل تكاد تدمي القدمين واليدين، خاصة عندما يحاول بكل ما أوتي من قوة فكها، غير أن أحد الغلاظ يدفعه إلى الأمام، حتى كاد يسقط أرضا. بدا المشهد ساديا للأم الباكية، فصرخت "غير بالشويا عليه"، غير أن صراخها لم يثر اهتمام أي أحد، بل إن شابا يتجاهل بكاء الأم ويتقدم منها متوسلا "ميمتي شري ليا السكار، أو الشمع". يتعثر الشاب القوي في مشيته بسبب السلاسل. أمامه يسير أحد الغلاظ ووراءه آخر يدفعه بين ثانية وأخرى ليزيد سرعته، وحين يقتربون من بيت تراصت وراءه عدة بيوت أخرى بشكل عشوائي، يوحي بأن صاحبه أراد أن تكون هذه البيوت الأخرى امتدادا لبيته، أو داخليته الخاصة، ينادي باسمين تباعا، وعلى طريقة العسكر يخرج شابان مسرعين، وفي قدميهما صندل بلاسيتكي من النوع نفسه، جريا باتجاهه، ووقفا بانضباط في انتظار الأوامر. "هزو هاذ الشي !"، أمر صدر ونفذه الشابان في الحال، فحملا عنه الحقيبة وأغراض أخرى، وعادا إلى السيارة لنقل ما جلبته معها الأم لولدها المريض، آملة أن تكون إقامة ابنها في هذا البيت مؤقتة، وأن يشفى من مرضه العقلي سريعا ويعود إلى البيت وإلى السيارات الفاخرة، وأن يعود محبوبا كما كان من بنات وأبناء الدرب، وأن لا يعود محط شكايات واستدعاءات القائد، ولا أن تنبذه جلسات الشاي في مقهي الحي."عاد صيفا كالعادة، إلى حضن عائلته، ومعه الهدايا لعروسه، ولزوجة شقيقه وأطفالهما الصغار، وجلب للأب الحذاء "الطالياني"، ولأبناء الجيران ما طلبوه في آخر رحلة، ثم قضى فترة ليسافر من جديد". لم تمر فترة طويلة حتى عاد الابن في الطائرة هذه المرة، "كان شاحبا مريضا، مكتئبا، كأنه أصيب بصدمة. يغلق عليه باب الغرفة، ولا يتركها إلا لقضاء حاجته. لا يتناول إلا القليل وبإلحاح كبير من الوالدين، عزف عن الكلام. رفض تناول الأدوية التي وصفها له الطبيب المختص".