ينتمي الفنان محمد المزكلدي، إلى الرعيل الأول من المطربين المغاربة الذين أسسوا لبدايات الأغنية المغربية العصرية، ومن أوائل الفنانين الذين عرفوا بالأغنية المغربية بالشرق العربي خلال مرحلة الخمسينات، عندما قضى بأرض الكنانة أزيد من 6 سنوات، مكنته من الاحتكاك عن قرب بفطاحلة الطرب العربي . عبر هذه الحلقات تستعيد "الصباح" مع صاحب أغنية "العروسة" جوانب من مسار حياته الشخصية والفنية، وذكرياته مع شخصيات عاصرها. الولع بالفن بدأ مع جهاز "غراموفون" رغم شدة وطأة المرض، وألم العزلة، لم يستسلم محمد المزكلدي قط لليأس، ولم يخنع لصروف الدهر التي جعلت اسما من رواد الأغنية المغربية العصرية، وواحدا من الذين عاينوا مخاضات ولادتها قبل عقود، ينزوي بعيدا عن الواجهة ويراقب ما يجري تحت جسرها من مياه يعكس لونها ما تنضح به كل مرحلة. يتساقط أخبار رفاق الأمس، ويعلم بتساقط بعضهم الواحد تلو الآخر، فيتعمق إحساسه بالوحدة. إلى عهد قريب ظل المزكلدي حريصا على حضور أنشطة النقابة الحرة للموسيقيين المغاربة، وواحدا من مؤسسيها، إذ كان يتحامل على نفسه في السنوات الأخيرة ويطل بين الفينة والأخرى، على مقرها، ويجالس رفاقه بها، منهم أمينها العام الراحل مصطفى بغداد الذي ودعنا على خشبة المسرح وهو يقدم نشاطا للنقابة، قبل أن يتوقف نبض قلبه على حين غرة جراء إفراطه في المجهود. هذا الرحيل المفاجئ خلف أسى كبيرا في نفس المزكلدي، الذي لم يعد قادرا هو نفسه على مواظبة حضور الأنشطة بعد أن أقعده المرض، وجعله حبيس البيت، يتلقى من حين لآخر اتصالا من صديق قديم، أو زيارة لبضعة فنانين يطمئنون فيها على حالته الصحية، ويستعيدون معه ذكريات الأيام الخوالي. ذاكرة متقدةلعبة التذكر والاستعادة هاته، يجيدها محمد المزكلدي بامتياز، ثقافته الرفيعة وفصاحة لسانه، وذاكرته المتقدة، تسعفه على الإمساك بناصية الحكي، حتى في لحظة لقائنا معه، وكان برفقتي الصديق والفنان مصطفى أحريش الذي كان له الفضل في هذا اللقاء، كان المزكلدي طريح الفراش، حتى خلت نفسي لا أكاد أستخرج منه شيئا، لكن ما إن فتحت أمامه نوافذ الذاكرة، وهبت نسائم الماضي على محياه الذي لم يفقد شيئا من ملامحه الطفولية حتى وهو في الثالثة والثمانين من عمره، حتى انشرحت أساريره ونطق كلماته الأولى بصعوبة، قبل أن ينطلق لسانه بعربية فصيحة، (وليست دارجة)، وهو يستعيد نقطة البداية في مسار فنان اسمه "محمد المزكلدي". حماس وطني"كانت ولادتي بفاس العزيزة، قضيت بها طفولة مليئة بالأحداث والمواقف، خلال فترة كان يعيش فيها المغرب تحت نير الاستعمار الفرنسي، قبل أن أجد نفسي منجرفا خلف الحماس الوطني، بحكم أن العديد من أفراد عائلتي كان ينتمون إلى الحركة الوطنية بالعاصمة العلمية".بهذه العبارات المنتقاة بعناية، حاول المزكلدي أن يضع لنا الخطوط العريضة لمساره الذي تتقاطع فيه فاس بحمولتها التاريخية والرمزية والحضارية، مع نشاط الحركة الوطنية، مع الولع بالفن والموسيقى الذي بدأ لديه مبكرا، إذ يرجع الفضل فيه كما يقول إلى جيرانهم الذين كانوا يتوفرون على جهاز "غراموفون" مكنه من اكتشاف أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان ونادرة.تابع المزكلدي تعليمه الأولي، إسوة بأبناء جيله، بالمسيد، ويقول بهذا الصدد "كنت كلما عدت من المسيد أتسلل إلى بيت الجيران لأستمع إلى الغراموفون، وبالسليقة حفظت الكثير من أغاني رواد الطرب، وبدأت أرددها مع نفسي ومع الأصدقاء، وهذه الأغاني هي التي جعلت مني إنسانا يحب الموسيقى ويعشقها، ويتغنى بها". الالتحاق بالمدرسةبعدها الانتهاء من فترة المسيد، التي خرج منها المزكلدي حافظا لما تيسر من القرآن، وأيضا لما التقطت أذناه من أغان، ساهمت في تهذيب وجدانه، جاءت فترة التحاقه بمدرسة "النجاح" بفاس، التي كان يديرها الراحل الهاشمي الفيلالي، أحد رموز الحركة الوطنية بالعاصمة العلمية، وهو ما جعل مدرسته مقصدا للعديد من المقاومين ورجال الحركة الوطنية، منهم علال الفاسي. وكثيرا ما كان يفد المقاومون على المدرسة ويعقدون اجتماعاتهم في الطابق العلوي، بينما التلاميذ يتابعون دراستهم في الطابق الأرضي.عزيز المجدوب