سماسرة وموظفون يقدمون فيه للزبناء خدمة المحامي وأحكاما لصالحهم كانت جلسة غير عادية بهيأة الجنايات الاستنئافية- جرائم الأموال، بالبيضاء، الجمعة الماضي، إذ كان الحدث، مواصلة النظر في ملف سماسرة المحاكم بالبيضاء، المتابع فيه مسؤولون قضائيون ومحامون وموظفون، من بينهم رجال أمن ودرك و"سماسرة"، بجناية تكوين عصابة إجرامية والارتشاء والرشوة وجلب زبناء لمحامين. إنجاز : مصطفى لطفي خصصت الجلسة المنعقدة بالقاعة 6، برئاسة القاضي بوشعيب فارح لمواصلة الاستماع إلى باقي المتابعين في الملف، بعد أن تم الاستماع في الجلسة السابقة لمسؤولين قضائيين ومحامين. بدأت الجلسة بالاستماع إلى محام وبعدها منتدب قضائي ووسطاء، على أن يتواصل الاستماع في الجلسة المقبلة المحددة في 21 فبراير الجاري إلى المتهمين المتابعين في حالة سراح. "باك جاهز" أثار منتدب قضائي بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، أدين ابتدائيا بثلاث سنوات حبسا نافذا، انتباه كل من تابع الجلسة، من خلال طريقة رده على أسئلة رئيس الجلسة، القريبة من مرافعات المحامين، إذ كان يجيب بصوت منفعل وجهوري، مستعينا بعبارات بالفصحى، وفي لحظات ينهل من الخطاب الديني القريب من الموعظة، في إشارة إلى أنه "ظلم" في الملف، لكن حنكة رئيس الجلسة ونباهته، كانتا تتصديان لكل هذه المحاولات، سيما عندما كان المنتدب يحرف النقاش صوب موضوع بعيد عن القضية. كانت التهم الموجهة للمنتدب ومتهمين آخرين، تسلمهم المال من مواطنين مقابل خدمة أشبه بـ"باك جاهز" في القضاء، أي التوسط في اختيار محامي متخصص في القضية موضوع الوساطة، مع وعود بتمكين المستفيد من "هذه الخدمة" من حكم قضائي لصالحه مقابل ملايين، قبل أن يفتضح أمرهم، لما عجزوا عن الوفاء بوعودهم. "أنا غادي نموت..." حاول المنتدب القضائي المتابع في الارتشاء و"السمسرة"، الظهور بعزيمة قوية وهو واقف بثقة كبيرة في النفس، أمام القاضي بوشعيب فارح وباقي مستشاريه وممثل النيابة العامة، لدرجة أنه أبدى خلال الرد على بعض الأسئلة، وجهة نظره "القانونية" بخصوص إجراءات المتابعة، وطعن في محاضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، سيما في ما تعلق بتفريغ المكالمات الهاتفية، التي تعتبر من الأدلة على تورطه وباقي المتهمين في الوساطة لدى القضاء مقابل رشاو. لم يكتف المنتدب القضائي بـ"محاضرته" القانونية، بل تحول إلى واعظ ديني، عندما شدد على أنه تجاوز الستين من العمر وأنه ينتظر الموت، وتحدث عن يوم القيامة والحساب، وأن الجميع سيلقون جزاءهم في الآخرة، وبعدها تباهى بصوت مرتفع وبثقة في النفس، أنه منتدب قضائي من الدرجة الممتازة وقضى 30 سنة في الخدمة، وبالتالي لا يمكنه التورط في هذه الجرائم. الطعن في المحاضر في بداية الجلسة تمكن المنتدب القضائي من فرض حضوره من خلال طريقة دفاعه عن نفسه الأقرب لمرافعات المحامين، مستعينا بلغة فصيحة ودرايته بالمصطلحات القانونية بحكم طبيعة وظيفته، إلا أن هذه "المبادرة الهجومية"، كانت تتكسر أمام دقة أسئلة رئيس الجلسة وخبرته الكبيرة في إدارة الجلسات، ما كان يدخل المنتدب من جديد في موجة من الشك والارتباك، بحثا عن أجوبة للسؤال الجديد، لدرجة أنه خلال سؤال وجه له بشكل مفاجئ، انفعل بقوة وعقب بصوت عال، ليتدخل رئيس الجلسة بطريقة لبقة لمطالبته بالهدوء وتفادي الانفعال. إلى جانب الرشوة، يواجه المنتدب القضائي تهمة الوساطة في جلب الزبناء لمحامين، وهي تهمة حاول نفيها عنه بشدة، مؤكدا أنه بحكم منصبه بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، ظل مكتبه مفتوحا للمواطنين، إذ يتفاعل معهم بشكل إيجابي كلما طلبوا منه مساعدة واستشارة، نافيا توسطه لأي محام وحصوله على عمولة عن كل زبون. وفي لحظة، استشاط المنتدب القضائي غضبا، لما واجهه رئيس الجلسة بأن تسجيلات صوتية مضمنة في محاضر الشرطة القضائية تؤكد تورطه في الوساطة لمحامين والقضاء في الوقت نفسه، إذ بغضب طعن في محاضر الضابطة القضائية وكل الإجراءات التي قامت بها وشكك حتى في التسجيلات الصوتية. صفعة الشهود أمام تمسك المنتدب القضائي بالإنكار، نادى رئيس الجلسة على الشهود، كانت أولهم امرأة، إذ بمجرد أن صرح رئيس الجلسة أنها تتهمه بمطالبتها بـ10 ملايين سنتيم للتوسط لقريبها المتهم بالاتجار في المخدرات للحصول على حكم مخفف، ثارت ثائرة المنتدب القضائي، وعقب بصوت عال "أش من تاريخ وقع هادشي !"، فرد عليه رئيس الجلسة بأنه من حقه الإنكار. ولقطع هذا الجدل استفسر القاضي الشاهدة إن كانت سلمته المبلغ كاملا، فكان جوابها أنها لم تعد تتذكر جيدا، وحصرت المبلغ المسلم ما بين أربعة ملايين وخمسة، قبل أن تستدرك، أن المتهم الماثل أمام هيأة الحكم سبق أن اعترف أمام قاضي التحقيق بحصوله على أربعة ملايين، مضيفة أن المبلغ المالي سلمته له بشكل مباشر، دون وساطة من شخص آخر. وقتها بدا الانفعال على المنتدب القضائي، وظل يحدق في الشاهدة بشكل مريب، إلى درجة أن رئيس الجلسة فارح، تنبه للأمر، وخاطبه "شوف فيا أنا ما شي هي". واصلت الشاهدة حديثها بالقول إن المنتدب تسلم منها المبلغ المالي، ووعدها أنه سيتوسط لها لدى محام لتولي باقي المهام حتى ينال قريبها حكما مخففا. رد المنتدب القضائي بغضب على تصريحات الشاهدة، بأنه لم يتسلم منها أي مبلغ مالي، قبل أن يردد بصوت مرتفع وبلغة فصيحة " في ذاك الوقت أنا لم أكن هنا"، في إشارة إلى أن الواقعة تعود إلى 2018. الدقيق المدعم بعد أن قدمت الشاهدة إفادتها، طلب منها رئيس الجلسة العودة إلى مكانها بالقاعة، وبشكل سريع واجه موظف المحكمة بتصريح شاهدة أخرى، تفيد أنه تسلم منها مبالغ مالية للتوسط لها في ملف قضائي، هنا بدا مرتبكا، وصاح بانفعال كبير بأن صاحبة الشهادة، تستجدي المساعدات، وأنه شخصيا ساعدها للحصول على الدقيق المدعم، بسبب وضعها الاجتماعي، وبالتالي يستحيل أن يطلب منها المال، ليستغل المنتدب الوضعية الاجتماعية للشاهدة، لمهاجمة محضر الفرقة الوطنية من جديد والطعن فيه، إلا أن رئيس الجلسة قاطعه، بالمناداة على شاهدة أخرى. وصرحت الشاهدة الثالثة أنها سلمت المنتدب مليونين ونصف مليون سنتيم للوساطة لها في ملف رائج أمام القضاء، فعقب المنتدب بغضب وبشكل سريع، أن تدخله اقتصر على تكليف محام للإنابة عنها وأن المبلغ المالي، استفاد منه المحامي كاملا، دون أن ينال أي عمولة، فعقب عليه رئيس الجلسة مستغربا، أن الشاهدة إن كانت في حاجة إلى محام ستتوجه لمكتبه مباشرة دون حاجة إلى وساطة منه، فرد المتهم أن الشاهدة وكباقي المواطنين يطلبون منه المساعدة في هذا الأمر، قبل أن يستدرك أن المحامي أعاد لها المبلغ كاملا، لتقاطع الشاهدة رده للتوضيح، أنه ظل محتفظا بالمال، بعد أن أقنعها أنه سيبحث لها عن محام ثان. طالب رئيس الجلسة من الشاهدة العودة إلى مقعدها، قبل أن يأمر رجال الامن بالقاعة بإعادة المنتدب القضائي إلى قفص الاتهام، إذ تشعر بفعل خطواته أنه كان أمام يوم الحساب فعلا، رغم ذلك، مازال محافظا على أنفته مسؤولا إداريا سابقا بمحكمة الاستئناف بالبيضاء. محامي قضايا العقار نادى رئيس الجلسة على متهم أدين بعقوبة حبسية في الملف. بدا المتهم نحيفا، متوسط الطول، ويضغ نظارة، هادئا في تصرفاته، يجيب عن الأسئلة بصوت خافت، يصعب على من يجلس في المقاعد الخلفية بالقاعة سماعه. كل من حضر الجلسة سيتوهم أنه أحد المحامين المتابعين في الملف، سيما أن الأسئلة التي وجهها له رئيس الجلسة توحي بداية بذلك، لكن مع مرور الوقت سيتضح أنه مجرد وسيط. من بين التهم الموجهة للمتهم، توسطه في قضية عقارية معروضة على المحكمة. نباهة رئيس الجلسة دفعته منذ البداية إلى مواجهة المتهم رفقة شاهد، الذي أكد أن متهما آخر متابعا في الملف، طلب منه 11 مليون سنتيم من أجل تعيين محام والتوسط له في ملف عقاري معروض على المحكمة، لكن لسبب ما، فشلت الصفقة وأعيد للشاهد المبلغ منقوصا. استفسر رئيس الجلسة الشاهد إن كان قد سلم المال للمتهم، فرد بالنفي وأكد أن المبلغ المالي سلم لمتهم آخر، متابع في الملف نفسه، وأنه خلال لقاء بمقهى، قدم له الماثل أمامه، من قبل الوسيط أنه هو المحامي، الذي سيتولى الإنابة عنه، وأنه متخصص في قضايا العقار، وفي الوقت نفسه أكد له أنه يتمتع بحظوة لدى القضاة. طلب رئيس الجلسة من الشاهد التحديق جيدا في المتهم واستفسره مرة ثانية إن كان هو الوسيط الذي تسلم منه المال، فتمسك الشاهد مرة أخرى بالنفي، وشدد على أنه المحامي الذي تولى قضيته. وواصل الشاهد تصريحاته بالقول، إنه سلم للوسيط 92000 ألف درهم، وبعد فشل عملية الوساطة في استصدار حكم لصالحه، سلمه الوسيط 90 ألف درهم فقط، مدعيا أن المحامي احتفظ لنفسه بـ2000 درهم، ليتضح له في ما بعد أن المتهم الماثل أمامه ليس بمحام، وإنما "سمسار المحاكم". حاول المتهم الدفاع عن نفسه بلغة هادئة، إذ نفى كل ما جاء على لسان الشاهد، إلا أن رئيس الجلسة رد عليه بعبارة صارمة "علاش غادي اكذب عليك"، قبل أن يواجهه بتهم أخرى تؤكد تورطه في "سمسرة المحاكم"، منها تسلمه 50 ألف درهم من شخص من أجل التسوط له في إجراء معاينة عقار، كما سبق له أن توسط في قضية أخرى لفائدة متهم متابع بإصدار شيكات دون مؤونة، مقابل مبالغ مالية مهمة. حينها التزم المتهم الصمت، قبل أن يخاطب القاضي بلغة دينية، منها عبارة أن الله سبحانه وتعالى يعلم الحقيقة، قبل العودة إلى قفص الاتهام.