حكاية وفد موسيقي مثل المغرب في أول مؤتمر للموسيقى العربي في ربيع 1932 احتضنت القاهرة مؤتمرا عُدّ الأول من نوعه في تاريخ الموسيقى العربية، بدعوة من الملك فؤاد الأول، الذي استدعى الحكومة المغربية آنذاك، وكانت البلاد ترزح تحت الحماية الفرنسية، فانتدبت وفدا ضم مغاربة وفرنسيين، وتولى الباحث الفرنسي أليكسي شوتان توثيق الرحلة في كتاب في العام نفسه بالفرنسية ترجمه إلى العربية عبد الكريم أبو علو بعنوان "الرحلة الفنية إلى الديار المصرية"، قبل أن تعيد نشره وزارة الثقافة القطرية ضمن إصدرات "كتاب الدوحة" وتولى دراسته وتحقيقه الباحث رشيد العفاقي. في هذا الخاص تضعكم "الصباح" في أجواء الكتاب الذي يضم تفاصيل الرحلة الفنية للوفد المغربي إلى الديار المصرية وما دار خلال المؤتمر من جدال ومناقشات من كبار علماء الموسيقى العربية من عرب ومستشرقين . إعداد: عزيز المجدوب صباح يوم 5 مارس 1932، انطلقت باخرة تابعة لشركة "نيكولا باكي" من ميناء الدار البيضاء، تمخر عباب مياه البحر الأبيض المتوسط، تقل على متنها وفدا مغربيا، يضم مسؤولين وباحثين وموسيقيين، لتمثيل المغرب في مؤتمر الموسيقى العربية الأول المقام بالقاهرة عاصمة مصر. يصف ألكسي شوتان، الباحث الفرنسي وأحد المشرفين على الوفد، اللحظات الأولى من هذه الرحلة البحرية التي استمرت حوالي 9 أيام، بقوله "كان البحر ثائرا ثورانا خفيفا لدى خروجنا من البيضاء، لكنه سكن، بعد قليل، فهل أثّرت عليه أولى نغمات العود والرباب التي نسيها، ولا شك، منذ مدة طويلة، منذ عهد القراصنة السلاويين وأيام المهاجرين الأندلسيين". ويضيف شوتان "أخذ أعضاء المؤتمر الموسيقي يشتغلون قبل انعقاد مؤتمرهم، وأبوا إلا ان يشركوا جميع ركاب الباخرة في المسرّات، حيث استدعوهم لحضور حفلة موسيقية جميلة، فوقّعوا توشيحا ظريفا، شنف أسماع الحاضرين، وأنشد ذو صوت رخيم موالا يستهوي ذوي الألباب، أطرب الحضور". كانت المحطة الأولى للباخرة، بعد إبحار لمدة ثلاثة أيام، هي مدينة مارسيليا الفرنسية، حيث اجتمع هناك أعضاء الأجواق العربية لبلدان شمال إفريقيا كأبناء أسرة واحدة، قبل أن ينطلق الإبحار مجددا على متن باخرة أخرى تابعة لشركة "بروفيدانس" أتمت ما بقي في أيام الرحلة قبل أن ترسو على الشواطئ المصرية. يوميات في البحر والبر تشكلت بعثة الوفد المغربي الذي تولى رئاسته قدور بن غبريط رئيس التشريفات السلطانية ووزير فرنسا الشرفي، وكان معه في قيادة الوفد شخصيتان فرنسيتان متخصصتان في الموسيقى المغربي هما بروسبير ريكار، رئيس مصلحة الفنون الأهلية الجميلة بالرباط، وأليكسي شوتان، مفتش الفنون الجميلة الأهلية ومدير المعهد الموسيقي العربي في الرباط المعروف بـ "دار الطرب". كانت دعوة حضور المؤتمر قد وجهت رسميا إلى الحكومة المغربية من قبل الملك فؤاد الأول عاهل مصر، آنذاك، ضم الوفد الفني مجموعة من الأسماء على رأسها عمر الجعيدي، رئيس جوق الطرب في قصر السلطان، ومحمد شويكة، منشد القصر السلطاني، إضافة إلى عازفين مختصين في الآلة الأندلسية ومن أمهر شيوخها، وهم محمد المطيري الفاسي، ومحمد امبيركو الرباطي وعثمان التازي الفاسي وعبد السلام بن يوسف الرباطي ومحمد دادي الفاسي. وتولى أليكسي شوتان توثيق تفاصيل الرحلة البحرية من المغرب إلى القاهرة، عبر مذكرات نشرت عقب عودة الوفد المغربي بعد أسابيع من تمثيل المملكة في المؤتمر خلال مارس وأبريل 1932، على شكل تقارير صحافية بجريدة "السعادة" بترجمة عربية صدرت في الصحافة وفي كتيب صغير بتوقيع عبد الكريم أبو علو خلال نهاية السنة نفسها. وتحدث المؤلف عن الرحلة البحرية، التي كانت تسمع في كل أركانها، غناء عربيًا ذا نغمات، جمعت بين الشدة والحنان، وخلال الليل كانوا يتسامرون حول الموسيقى، ويتحدثون عن فراعنة النيل، وعلو همة جلالة الملك فؤاد الأول، وشرف مقاصده من متابعة السعي بدون انقطاع لجمع العلماء، والذي أعد جائزة مالية طائلة لمكافأة الخطاط الذي يخترع حروف التاج العربية. أما عن القاهرة فيقول شوتان مؤلف الكتاب، "لقد أتعبتني الحرارة الشديدة الوطأة في رائعة النهار، المعتدلة في المساء، كما أتعبني الضجيج والحركة المستمرة في هذه المدينة، العظيمة بآثارها التاريخية العجيبة، والتي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة، وتختلط فيها جميع الأجناس البشرية وجميع اللغات الشرقية والغربية"، مع أنه وصل في القاهرة في غروب 14 مارس، وهو قمة فصل الربيع، وقبل حلول عيد الربيع في شم النسيم. نزل الوفد في "شبرد أوتيل"، وهو من أعظم الفنادق، وفيه مكتب للبريد، وآخر للبنك، وغير ذلك من كل ما يحتاج إليه السائح، ويقصد فندق شبرد. ثم حضر حفل شاي، أقامه وزير التعليم العام حلمي عيسي باشا، لكل أعضاء المؤتمر في حديقة المعهد الموسيقي الشرقي، وهو عبارة عن بناية فخمة شيدتها مجهودات فردية، وتشمل قاعة للمحاضرات مزينة بأجمل زينة ومؤثثة على أبدع نظام، وغرف أخرى للدرس والمكاتب، ومتحف للآلات الموسيقية، ومقهى. ويستعرض شوتان في الكتيب الذي جاء على شكل يوميات تصف بدقة الأماكن التي زارها الوفد، خاصة المعالم الكبرى للقاهرة ومآثرها، كما تحدث عن الفقرات الموسيقية التي استمعوا إليها، منها أمسية قائلا "أنصتنا إلى جوق مصري يسمى، جوق العقاد الكبير، يرأسه السيد مصطفى العقاد، الأستاذ في معهد الموسيقي، فأسمعنا أغنيات قديمة، وأخرى حديثة، كلها قصيرة، لكنها جميلة محكمة التلحين، تشتمل على نغمات خلابة، وذات قيمة فنية عالية، فيها قصائد وتواشيح جميلة يغني بها منشد واحد ذو صوت رخيم، وترافقه كمنجة، وطورًا قيثارة، وتارة أخرى عود أو سنتير، وكان السماعون لشدة اغتباطهم، يصيح الواحد منهم آه، أو الله، بأعلى صوته، بحيث يخيل أن صياحه هذا يصعد للسماء السابعة بسرعة البرق الخاطف، والحاصل أن من يفهم شدة تأثر الموسيقى على الشرقيين، لا يتعجب من تنظيمهم لهذا المؤتمر الوحيد في بابه، والمتطلب نفقات طائلة". ويقول إنهم في يوم الثلاثاء 22 مارس زاروا الأهرام، وطافوا حولها سعيًا على الأقدام، فشاهدوا هناك جمال غروب الشمس، وروعة القمر، ومفعول أشعته الفضية على تلك الهياكل العظيمة التي تثير إعجاب من يراها. وفي يوم الأربعاء 23 مارس أنصتوا إلى أجواق سورية، ثم استمعوا إلى جوقين من النساء المغنيات الراقصات، فقام الأول بغناء ورقص جميل. في مساء الخميس 24 مارس أقام الموسيقي المصري الشهير، سامي الشوا، حفلة رائعة، عزف أثناءها على الكمنجة بعض المقطوعات الموسيقية القصيرة، وبرهن عن لطافته ومهارته الساحرة للألباب مع تفوقه الكبير في الفن، هو مشهور ومحبوب لدى الجمهور المصري، هو والآنسة أم كلثوم، إذ يعدهما المصريون افتخارًا وطنيًا. وفي مساء الاثنين 28 مارس غنت مغنية الشرق الكبيرة، الآنسة أم كلثوم، التي يتهافت الناس على تسجيل غنائها تهافتا كبيرا، فكانت تنشد لنا تلك الجمل القصيرة، وتكررها عدة مرات، بصوتها الرخيم ونغماتها العذبة، وكان بعض المعجبين بها يصيحون بالآهات من أعماق أفئدتهم. أندلسيات في أسطوانات تفرعت لجن المؤتمر إلى خمس لجان عربية وخمس لجان أجنبية أصدرت جميعا مجموعة قرارات تناولت المسائل العامة والمقامات والتأليف الموسيقي ومشاكل السلم الموسيقي والآلات الموسيقية وجمع وتحقيق ونشر المخطوطات العربية وغيرها المتعلقة بالموسيقى العربية، حضرته وفود وفرق من كل من سوريا والعراق والجزائر والمغرب وتونس مع الوفد المصري ومنعت إيطاليا الوفد الليبي بقرارها الاستعماري. وعنيت اللجان بالمقامات والإيقاعات والتأليف المستعملة في مصر مع مقارنتها بالتي توجد ببقية الأقطار العربية وبحثت إمكانية بعث طريقة لتدوين الموسيقى ومحاولة إيجاد أنواع جديدة من الشعر والغناء العربيين ودراسة الأبعاد الموجودة بين مختلف درجات سلالم مقامات الموسيقى العربية مع إحصاء آلات الموسيقى العربية وإمكانية تطويرها والموقف من إدخال آلات الموسيقى الغربية في الفرق العربية وإعداد معلمين ذوي كفاءات موسيقية عربية وغيرها وإحصاء المخطوطات المتعلقة بالموسيقى العربية وكذلك إعادة مؤلفات لجميع الموضوعات السابقة مع تاريخ الموسيقى العربية سواء منها القديم أو التي لكل قطر عربي مدة القرنين الماضيين. وأنجز المؤتمر تسجيلا هاما لقطع تراثية من مختلف الأقطار العربية منها 125 أسطوانة للفرقة المغربية و31 أسطوانة للفرقة العراقية وأسطوانة واحدة لعازف قانون من سوريا و23 أسطوانة للفرقة التونسية، و14 للفرقة الجزائرية، و141 أسطوانة لشيخ الفنانين المصريين المرحوم درويش الحريري، و13أسطوانة للتراث الشعبي المصري وأسطوانتين لفرق العوالم المصرية ، و3 لعرب الفيوم من مصر، و15 أسطوانة للذكر الليثي و9 أسطوانات لغناء الكنيسة القبطية مع أسطوانات لنماذج من الإيقاعات والمقامات والتقاسيم المرتجلة من أبرز شيوخ المؤتمر. قضايا نظرية في المؤتمر يشير الباحث المغربي عبد العزيز بن عبد الجليل، في كتاب له صدر حديثا في موضوع "المغرب في المؤتمر الأول للموسيقا العربية 1932" إلى أنه قبل انعقاد مؤتمر القاهرة لم يكن هناك مصطلح الموسيقى العربية مستعملا، وإنما المصطلح السائد كان هو الموسيقى الشرقية التي كانت تعتمد التحديد الجغرافي وليس اللغة المستعملة. إضافة للدول العربية كان يعنى بالموسيقى الشرقية كذلك الموسيقى التركية والإيرانية وليس كما هو الحال الآن إد تختزل غالبا في موسيقى دول المشرق العربي. وقد كانت داخل مؤتمر القاهرة ثلاثة توجهات نظرية وفنية تمثل كل واحدة منها مصر، لبنان وسوريا وأخيرا تركيا. دول الخليج لم تشارك في مؤتمر القاهرة ومشاركة الدول المغاربية اقتصرت خصوصا على العروض الموسيقية. ويضيف عضو المجمع العربي للموسيقى أن التوجه المصري دافع على مفهوم الموسيقى العربية مكونا من مكونات الهوية. عكس التوجه التركي الذي كان موقفه هو الحفاظ على تسمية الموسيقى الشرقية وبالتالي الحفاظ على التأثير والثقافة العثمانية. وقد تبنى المؤتمر موقف مصر التي كانت حاضرة بثقلها العددي وكبلد يحتضن المؤتمر. وما ساعد على ذلك هو تنامي الوعي والإحساس الوطني في الدول العربية التي كانت تشهد صعود الحركات الوطنية المطالبة باستقلال البلاد من الاستعمار والتي كانت واعية بدور الموسيقى في نشر الوعي الوطني، خصوصا أن الفترة كانت فترة ظهور الراديو والتسجيل على الأسطوانات. إضافة للخلاف على التسمية عرف المؤتمر الأول للموسيقى العربية بالقاهرة توجهين الأول كان يدافع على الحفاظ على الأصالة وقد مثلت هذا التوجه سوريا و لبنان ونسبيا تركيا. أما التوجه الثاني الذي شخصته مصر تجديد الموسيقى الشرقية باستعمال بعض الآلات الموسيقية الغربية و تبني مقامات موسيقية جديدة تستلهم من مقامات الموسيقى الغربية. وعارض إدخال الآلات الحديثة إلا أن هذا لم يمارس عمليا، إذ كانت الفرق والمغنيون يستعملونها وانتشرت في ما بعد. أما في ما يخص تجديد المقامات واستعمال النوتة فكان هناك غموض.