"جات من الفوق"، كلمة سحرية تستعمل كثيرا للتعبير عن أن هذا القرار أو ذاك يخضع لسلطة عليا ولا تمكن مناقشته، وهي العباءة التي يحاول الكل ارتداءها لإضفاء الشرعية على قراراتهم ومواقفهم. "جات من الفوق" تمثل علامة "قف"، التي تتطلب منك عدم طرح السؤال أو المناقشة، فيكفي أن يقال إنها "من الفوق"، لتلتزم الصمت وتقبل بالوضع كيفما كان، لكن المثير أن هذا "الفوق" دائما يشار إليه بالغائب الحاضر، فهو غائب بشخصه الذي لا يعرف ويخضع لمنطق التكهنات، وحاضر بقوته في تطبيق تلك القرارات وعدم مناقشتها. يخالج المواطن شعور داخلي يدفعه دائما إلى البحث عن هذا "الفوق"، مصدر القرارات التي لا تقبل النقاش، لكن شيئا ميتافيزيقيا يمنع من ذلك، ربما لأن السياسة ذاتها كانت تنتهج في الصغر داخل الأسر، إذ كان الأهل، كلما أرادوا ثني طفلهم عن شيء ما، يخبرونه بأن ذلك سيعرضه للعقاب من ذاك المجهول الذي يكنى بـ "بوعو" أو "الغول" أو "الشيطان"، وغيرها من الأساطير، التي تتطلب من الطفل القبول بالواقع والتراجع عن طلباته، أو التوقف عن الشغب. كبر الطفل وكبر معه الخوف من هذا المجهول، الذي تحول من مجرد أسطورة إلى واقع، يلجأ إليه في غالب الأحيان لتطبيق قرارات كيفما كان نوعها، أو حتى التهرب وتحميل "الفوق" السبب في ذلك، حتى أضحى المواطن العادي يساهم، هو الآخر، في تلك الأسطورة باعتبار أن كل الأشياء تخضع لمنطق "الفوق". المصيبة الكبرى أن الكل يساهم في هذه اللعبة من موقعه، ويزكيها بالتأكيد على أن سياسة "جات من الفوق" مرض خطير أصاب الشعب وجعل لغة الاستسلام والخضوع، تسيطر عليه، وحولت المجهول إلى قوة ضاغطة، يمكنها التحكم في مصير المواطنين، الذين استسهل أغلبهم الأمر ووجدوا في ذلك "الفوق" طوق نجاة، يمكن اللجوء إليه لتبرير إخفاقاتهم. لم نسمع، في يوم من الأيام، أن هناك شخصا ما وقف في وجه المجهول وحاول البحث عنه، والتصدي له. المجهول الذي أسيء به إلى مؤسسات الدولة، وأبيحت به العديد من المحظورات، وساهم في تفشي العديد من الظواهر غير الصحية، وأعطيت به الشرعية للعديد من الأشياء غير القانونية. من يكون هذا الفوق الذي يسلب الإرادة ويتحكم في حياة المواطنين؟ لا يمكن تصديق أن الفوق يمكنه فعل ذلك، فالفوق الذي يتذرع به، ليس سوى السلبية التي أضحت لصيقة بأغلب المواطنين. إنه التواكل في كل شيء، والهروب من مواجهة الحقيقة التي تفيد أن لا وجود للفوق، إلا في مخيلتنا الضعيفة التي تقبل الخضوع والخنوع، وترفض المواجهة. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma