مقاطع من ذكريات العندليب الأسمر مع الراحل وجدي الحكيم حلت، نهاية الأسبوع الماضي، الذكرى 47 لرحيل الفنان عبد الحليم حافظ. ولهذه المناسبة تستعيد "الصباح" مقاطع من حوار مطول أجريناه مع الإذاعي المصري الراحل وجدي الحكيم (1934 ـ 2014) نشر في "مجلة الصباح" (عدد ماي 2011) استعاد فيه جوانب من علاقته برموز الفن العربي منهم العندليب الأسمر الذي كان وجدي أحد أبرز المقربين منه ورافقه في العديد من رحلاته إلى المغرب التي يروي الحكيم بعض تفاصيلها التي تجدونها طي هذا الحوار. إعداد: عزيز المجدوب من هي أول شخصية فنية قابلتها إعلاميا؟ من محاسن الصدف أن تكون أول شخصية أجري معها حديثا إذاعيا هي الموسيقار محمد عبد الوهاب "دقة واحدة"، إذ أوفدوني من الإذاعة لكي أتابع وجوده في "ستوديو مصر" وهو يسجل أغنية "دعاء الشرق" سنة 5319، ولم يكن عمري حينها بالكاد يتجاوز عشرين سنة، وما زلت حينها أتابع دراستي ولم أتخرج بعد. وماذا عن لقائك الأول بأم كلثوم؟ التقيتها في إحدى الحفلات الخاصة، وكنت حينها أربي "شنبا" وحواجبي "ثقيلة" فاعتقدت أني الزميل أحمد فراج، رحمه الله، وكانت تتكلم معي على أساس أنني هذا الشخص، فلما علمت أنني لست هو، فكنت كلما دخلت عليها، في ما بعد، تقول لي ضاحكة "إنت ولاّ هو؟" سيما أنها لم تكن تمازح أحدا في الإذاعة إلا نادرا، ولذلك عهدوا إلي بكل مقابلاتها. هل كانت أم كلثوم فظة الطباع كما يقال؟ لا ليس كذلك، أم كلثوم كانت تحترم الجميع وتضع مسافة بينها وبين من يتعامل معها لكي لا يتجاوز أحد حدوده، وكانت تنادي كل من حولها "يا أستاذ فلان"، وتصور أنه رغم صداقتي بها فإنني ظللت أطاردها 18 سنة لكي أسجل معها مسار حياتها، وكانت ترفض معللة ذلك بأن رسالتها في الحياة هي "الغناء" وليس "الكلام"، وبصعوبة بالغة وبوساطة الكثير من الأصدقاء استطعت أن أقنعها بأن تسجل معي مسار حياتها سنة 1972، سيما أنها كانت حينها قد أسست مشروعا عبارة عن مؤسسة خيرية، وكنت عضوا في مجلس إدارتها وأقنعتها أن حديثها عن تاريخ حياتها يعد جزءا من الدعاية لهذا المشروع، وبعد تردد قبلت أن تسجل مسار حياتها. واستغرق التسجيل الذي يضم ثلاثين حلقة، حوالي سنتين، وأعتبر هذا من أكثر الأعمال التي أعتز بها في مساري. وماذا عن علاقتك بعبد الحليم حافظ؟ عبد الحليم ابن جيلي وكنت أشعر أنني مسؤول عنه وعن مساره الفني، خاصة أننا ارتبطنا بعلاقـــة متميـــزة بحكم أن كلانا كان يطمح إلى إثبات نفسه في المجال الذي يشتغل فيه، وقابلته أول مرة سنة 1954 عندما كنت أحضر تسجيلات عبد الوهاب، وكنت أرى عبد الحليم إنسانا لا يعيش إلا من أجل فنه، لا شي يهمه في الدنيا سوى الفن، دائم البحث عن الكلمات أو الألحان المعبرة بذكاء متناه. احك لنا بعض الوقائع التي عبرت فعلا عن هذا الإحساس لدى حليم؟ اذكر أنني انبهرت بسلوك أتى به عبد الحليم عبر به عن ذكائه، إذ سبق لعبد الوهاب أن وقع معه عقدا لإنتاج أفلام، ولأن الأخير بطبعه يفضل أن يتعامــل مع الفنانين الجاهــزين ولا يصنع أحدا، فقـــد أرجأ تنفيــذ عقــده مع عبد الحليم أزيد من سنتين حتى يتأكد من نجاح العندليب، وكانت قيمة كل فيلـم في العقد 300 جنيه، إلا أن العندليب سجل بعــدها ثلاثة أفلام وتضاعف أجره عشرات المرات عما كان موقعــا بالعقد، فلما نادى عليه عبد الوهاب لتنفيذ بنود العقـــد قال لـــه "أنــت الآن صــرت تأخــذ 3 آلاف جنيه عن الفيلم الواحد فلابد أنك تريد أن تـــرفع أجـــرك فاطلب ما تريـــد؟" فرد عليه عبد الحليم أنه مكتف بما وقـــع عليه في العقـــد أي الثــــلاثمائة جنيه"، وكنت حاضرا في هذا الاجتماع فغمزت عبد الحليم لكي يستغــــل الفرصة لرفع أجره، فتجــــاهلني وأصر على عدم تغيير الأجر المحـــدد في العقــــد، وهـــو الأمر الذي أثار استغراب عبد الوهاب نفسه، وعندما خرجنا سألتــــه عن سر هـــذا التصرف، وقال "اكتفيت بثلاثمائة جنيــــه مقابـــل ملايين سأجنيها من وراء تعاملي فنيا مع محمد عبد الوهاب" وهكذا كان عبد الحليم يعرف جيدا طريق نجاحه. رافقته في العديد من أسفاره حدثنا عن مرافقتك له إلى المغرب؟ مباشرة بعد أول زيارة له للمغرب سنة 1962، ساءت علاقته بالدوائر العليا بسبب إشاعة مغرضة ومعلومات زائفة أوصلت إلى الحسن الثاني مفادها أن أغنية عبد الحليم التي غناها من أجل استقلال الجزائر موجهة ضد المغرب، ما جعل الملك الراحل يصدر أوامره بمنع أغاني عبد الحليم من الإذاعة والتلفزيون، الأمر الذي فاجأنا نحن في مصر، إلى أن التقينا صديقا مغربيا هو المرحوم عزيز الفيلالي واشتكينا له الأمر، فاقترح على عبد الحليم أن يسجل رسالة صوتية ويبعثها إلى الملك يشرح فيها كل شيء، وهو الأمر الذي تم بحضور بعض الصحافيين من أصدقاء حليم منهم مصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس، حيث تم الاتفاق على الصياغة النهائية للموضوع، إلى أن اكتشف الحسن الثاني حقيقة الأمر وبأن كلام حليم هو الصحيح، فأمر بفتح الأبواب في وجهه، فأصر عبد الحليم على أن يعود إلى المغرب بهدية عبارة عن أغنية كلف محمد حمزة بكتابتها هي "الماء والخضرة" فلحنها بليغ حمدي في زمن قياسي، وكذلك تم تسجيلها، وفي اليوم الموالي أخذنا الشريط معنا في رحلة بالطائرة وكنت رفقة عبد الحليم وفاروق إبراهيم المصور وحمزة وبليغ، وعندما نزلنا بالرباط أخذ مبعوثون من الملك عبد الحليم إلى القصر فيما توجهنا نحن نحو الفندق بالرباط، وجلسنا من الظهر إلى المساء "ولا خبر عن عبد الحليم" إلى أن ساورنا بعض القلق، وحاول بليغ أن يتصل بالسفارة فدخل أحد العاملين بالفندق وقال ألم تروا عبد الحليم في التلفزيون، وعندما فتحناه وجدنا العندليب ضيفا على برنامج تلفزيوني وهو يتحدث عن الأغنية الجديدة التي ظلت تذاع باستمرار. ماذا تتذكر من تفاصيل عن زيارات عبد الحليم للمغرب؟ أذكر عندما وقع "انقلاب الصخيرات"، كنت رفقة عبد الحليم في الإذاعة بصدد تسجيل أغنية جديدة، فاقتحم الانقلابيون الإذاعة وحاولوا إرغامه على تلاوة البيان، ووصل الأمر إلى أن وضع أحدهم سلاحا على رأسه ومع ذلك رفض تلاوته، ومن حسن حظي وذكاء عبد الحليم أنه لم يقل لهم إن معه مذيعا وكنت منبطحا على بطني تحت التهديد بالسلاح، وإلا كان الأمر شيئا آخر، وقد واجه حليم الموت دفاعا عن الحسن وعاش موقفا مرعبا حينها ولما خرجنا من الإذاعة سرنا إلى فندق الهيلتون مشي، ووجهنا بعض المارة إلى الطريق، ووصلنا إلى الفندق وكان عبد الحليم في حالة إعياء تام، وازداد وضعه الصحي سوءا بسبب الموقف المرعب الذي تعرض له. وماذا عن علاقة عبد الحليم بزوجة أوفقير... كان إعجابا من طرفها بعبد الحليم باعتباره مطربا، ولا أستطيع أن أقول إنه كانت هناك علاقة عاطفية بينهما. (مقاطعا) لكن البعض تحدث عن سفرها معه إلى أوربا وزيارتها له بمصر؟ يمكن أن يكون ذلك بدافع إعجابها به، ولا أعتقد أن هناك علاقة من النوع الذي يحكون عنه، لأن عبد الحليم كان من الذكاء الذي لا يجعله يسقط في علاقة من ذلك القبيل، سيما أنه يعلم أن زوجها بتلك المسؤولية، ثم إن عبد الحليم كان متكتما جدا في علاقاته النسائية بحكم أنه كان فلاحا والمرأة بحسبه "عرض وشرف"، وأي امرأة تظهر معه تلوك سيرتها الألسن، لذلك كان يحرص على أن لا يعرف المقربون منه علاقاته النسائية، وأقول إنه كان على وشك الزواج من فتاة مغربية من أسرة غنية، لكن لا أعرف ما اسمها. ماهي الأغاني التي كان يطلبها الحسن الثاني من حليم كثيرا؟ الماء والخضرة بالدرجة الأولى، وأغنية "جواب" إضافة إلى موشح "يا مالكا قلبي"، وكان في بعض الأحيان يغني له أغنية أم كلثوم "دارت الأيام". الراحل الحسن الثاني هو من اقترح على بليغ حمدي تلحين أغنية "عيون بهية" التي غناها محمد العيزابي وافتتن بها عبد الحليم وكان ينوي غناءها، إلا أن بليغ أخبره أن الملك هو من أمر بأن تكـون الأغنية من نصيب العيزابي. كنت آخر إذاعي نقل صوته مباشرة على الهواء كيف حدث ذلك؟ خلال الفتــرة الأخيـرة من حياة عبد الحليم كثرت الإشاعات حول وفاته، فقررت الاتصال به هاتفيا ونقل المكالمة على أثير الإذاعة مباشرة لكي يطمئن عشاقه، وهو التسجيل الذي كان مؤثرا إلى حد بعيد وهو يطلب مني أن أسلم على مصر ويطمئنني على حالته الصحية وأنه سيعود قريبا، وقد عاد فعلا لكن في صندوق، إذ توفي يومين فقط بعد المكالمة. "عفش" زواج حليم بالمغرب ما هي حقيقة زواج عبد الحليم بسعاد حسني؟ تزوجا عرفيا وكانا على أهبة توثيقه خلال رحلتهما بالمغرب، إلى درجة ان عبد الحليم أعجبه أثاث غرفة نوم رآه في أحد محلات الدار البيضاء فدفع ثمنه مسبقا على أساس أن أتولى شحنه من ميناء البيضاء نحو مصر خاصة أنني قضيت أياما أخرى بعد مغادرة عبد الحليم، ولحظة كنت في الميناء عاود عبد الحليم الاتصال بي وطلب مني أن ألغي الشحن لأن فكرة الزواج الرسمي ألغيت، والسبب أن عبد الحليم اشترط على سعاد حسني اعتزال الفن، وهو الأمر الذي لم تكن تطيقه. عندما كسب حليم رهان "جبار" موقف وقعت فيه في سوء تفاهم مع عبد الحليم؟ أسمعنا ذات جلسة أغنية "جبار" في مرحلة قدم فيها العديد من أغانيه الشعبية مثل "سواح" و"جانا الهوى"، وأبديت له رأيي في أنه تخطى مرحلة الرومانسية الشديدة التي تتضمنها هذه الأغنية، فصمت حليم قليلا، وعندما أوصلني، كان يتحدث في أشياء لم تكن لها علاقة بالأغنية فعندما هممت بالنزول صمت قليلا ثم نظر إلي وقال "ورحمة أمي وأمك الأغنية مش عاجباك" فقلت له نعم، فرد علي "اللي يعيش ثلاثين سنة مننا يصفق للثاني" إلى أن جاء المغربي عبده شريف وغنى الأغنية على دار الأوبرا فوقفت أصفق، وأنا أذرف دموعا على عبد الحليم الذي كان أصدق منا في قراءة المستقبل.