صوت نسائي تألق وسط مجموعات ذكورية تحدت «رخاوة» المشهد الغنائي تنتمي سعيدة بيروك إلى الجيل المؤسس لظاهرة المجموعات الغنائية، التي انخرطت فيها مبكرا، وأضفت على روحها الجماعية، لمسة أنثوية، لم تخل من تحد وإصرار ونبوغ مبكر بتاء التأنيث. في هذا الخاص الذي يأتي تزامنا مع اليوم العالمي للمرأة، تأخذكم "الصباح" في رحلة عبر مسار هذه الفنانة التي رصعت اسمها وصوتها رفقة مجموعة "لمشاهب" وارتبط اسمها كذلك برفيق حياتها الفنان الراحل محمد باطما، ونجليهما طارق وخنساء باطما اللذين يشكلان استمرارا لهذه العائلة الفنية. إنجاز: عزيز المجدوب خلال نهاية الستينات ومطلع السبعينات، طالعتنا، في المغرب، بشائر حركة غنائية شبابية، آنذاك، ارتكزت على ملمحي الاحتجاج والرفض باستلهام رموز تعكس الحنين والنوستالجيا والارتباط بالجذور وبواقع ما قبل الراهن والحاضر، وهنا وجه المفارقة العجيبة في هذه التجربة التي أفرزت تجارب مماثلة تتفاضل من حيث القيمة والنوع. يتعلق الأمر بظاهرة المجموعات الغنائية التي انطلقت بالمجموعة المؤسسة والرائدة "ناس الغيوان" قبل أن تفرز، بعد أشهر قليلة أو سنة على أكثر تقدير، مجموعتين أخريين هما "جيل جيلالة" و"لمشاهب"، لينطلق بذلك توجه غنائي شبابي، حجر الأساس فيه الروح الجماعية، وحدّة الخطاب وصوفيته، في الوقت نفسه، والقطع مع "الرخاوة" التي دبّت في أوصال الأغنية الطربية، التي بدأت تفقد بريقها، آنذاك، تحت ضغط التحولات المتسارعة والأحداث الكبرى التي تحكمت في المزاج العام والذوق الفني، ما جعل الأسماع متعطشة لاستقبال ما يروي ظمأها للتغيير والتثوير. ورغم الطابع الذكوري الذي اتسمت به ظاهرة المجموعات الغنائية، ظاهريا، إلا أن صوتين نسائيين اخترقا نسقه، وكأنهما تطبقان مقولة الشيخ محيي الدين ابن عربي "ما لا يؤنث لا يعول عليه"، بل ساهما في تأسيس وميلاد مجموعتي "جيل جيلالة" و"لمشاهب" هما الراحلة سكينة الصفدي، والفنانة سعيدة بيروك، اللتان ظل صوتهما حاضرا في التسجيلات والألبومات المؤسسة لهاتين التجربتين الغنائيتين اللتين تشكلان عصب المجموعات الغنائية بالمغرب. نشأة على وقع الدقة المراكشية لم يكن سن سعيدة بيروك يتجاوز الرابعة عشرة، لحظة انخراطها في لجة الظاهرة الغيوانية سنة 1972، قادمة إليها من مراكش، محملة برصيد من العشق والولع بالفن، والتجارب المبكرة في مجال المسرح والغناء. الفتاة التي نشأت وترعرعت بفضاء المدينة العتيقة لمراكش، وتحديدا بدار القايد المنتاكي بدرب سيدي محمد بلحاج بباب دكالة، حيث تفتح وعيها مبكرا، على محيط ضاجّ ومفعم بالتعبيرات الشعبية الغنائية، التي ترشح بها جدران وأزقة وساحات المدينة الحمراء. وتأثرت الفتاة سعيدة، بوالدتها التي تقول عنها إنها بنت حي "القصبة" المعروف بالإيقاعات والأهازيج ونشاط المراكشيين "لعتاق" الذين اعتادوا تنظيم المناسبات والحفلات الخاصة و"النزايه"، كما كانت ترافقها في أماسي سينما "مبروكة" لمشاهدة الأفلام الغنائية المصرية أو الهندية، وهو ما ساهم في ترسيخ عشق الفن في وجدانها في سن مبكرة. تحكي سعيدة بيروك، في حديث مع "الصباح"، أنها تدرجت في دراستها ما بين المسيد والمدرسة الابتدائية سيدي عبد العزيز، ثم إعدادية لالة مريم، فوجدت نفسها مدفوعة بعشق خاص بالمسرح والفنون الشعبية، وهو ما جعلها تنخرط بدار الشباب الحي المحمدي بالداوديات بمراكش، حيث شاركت في بعض العروض المسرحية الهاوية. وخلال مطلع السبعينات، وبتأثير من ميلاد مجموعة "ناس الغيوان"، لم تكن الفتاة سعيدة بيروك، تتوقع أن تجد نفسها، في لحظة تأسيس مجموعة أخرى لن تقل عنها نجومية وجماهيرية، هي "لمشاهب"، لكن الأمر لم يكن بالسهولة المتوقعة. تحكي بيروك أن بداية مسارها الفني انطلق مع الأخوين محمد واحميدة الباهيري وعبد الحق الصقلي وعازف آخر، الذين شكلوا مجموعة أطلقوا عليها اسم "طيور الغربة". كانوا شبابا في مقتبل العمر، قرروا خوض مغامرة الانتقال إلى البيضاء لتسجيل أول أغنية لهم، ورفقتهم فتاة صغيرة، قصدوا منزلا لخالة الأخوين الباهري بحي لالة مريم، وقضوا عشرة أيام دون أن يتوفقوا في مسعاهم بعدما نفدت نقودهم اليسيرة التي جلبوها معهم، فقررت بيروك العودة من حيث أتت. من "طيور الغربة" إلى "لمشاهب" لعب المرحوم محمد البختي، دورا محوريا، في تجميع الأفراد الذين سيشكلون في ما بعد مجموعة "لمشاهب"، في نواتها الأولى المشكلة من الأخوين الباهري والشريف لمراني وسعيدة بيروك، التي أعادوا استقدامها من مراكش، بعد أن طلب البختي من والدتها أن يتعهد ابنتها بالرعاية، وتقطن مع أسرته الصغيرة وأبنائه، في الطابق العلوي لمنزله بحي "روش نوار" بالبيضاء، بينما استقر بقية أعضاء المجموعة في الطابق السفلي. كانت مجموعة "طيور الغربة" هي المجموعة الأم التي تأسست على يد الأخوين الباهري وسعيدة والشريف الأمراني، وبهذا الاسم شاركت في العديد من التظاهرات الفنية وقامت بجولات خارج المغرب، قبل أن يتقرر تغيير الاسم إلى "لمشاهب" بعد التحاق عناصر أخرى عوضت انسحاب الأخوين الباهري، وهم محمد السوسدي ومبارك الشاذلي. لكن بالنسبة إلى سعيدة بيروك كانت اللحظة المفصلية، هي لحظة التحاق الفنان محمد باطما، قادما من مجموعة "تكدة" بعد تجربة قصيرة، وقبلها، قدمت المجموعة سهرات بعدد من القاعات السينمائية البيضاوية، منها سينما "السعادة" بالحي المحمدي، حيث كانت على موعد مع اختبار أمام الجمهور، الذين كان من بينهم الراحل بوجميع والعربي باطما وشقيقه محمد وبقية أعضاء مجموعة ناس الغيوان وآخرون. ونشأت علاقة خاصة بين سعيدة بيروك ومحمد باطما، سرعان ما انتهت بالزواج، ليشكلا معا ثنائيا لامعا مع بقية أفراد مجموعة "لمشاهب"، وتحضر سعيدة في الألبومات والأغاني المؤسسة للمجموعة منها "الخيالة" و"أمانة" و"بين الكديات" و"حب الرمان" و"الواد" و"الطالب" وعدد من الأغاني التي اشتهرت بها المجموعة منذ تأسيسها إلى حدود 1976، حين انفصلت عنها بيروك. الانسحاب المرير تستعيد سعيدة بيروك بعضا من تفاصيل مغادرتها للمجموعة بنوع من المرارة والأسى، إذ قالت إن انسحابها لم يكن بسبب رغبتها في التفرغ لرعاية ابنها طارق الذي ولد حينها، وإنما لأسباب مادية محض كادت أن تعصف بالمجموعة قبل أن تترك مكانها بعد أن رأت في انسحابها خيرا للمجموعة. لم ينقطع اتصال سعيدة ب"لمشاهب"، إذ ظلت على صلة غير مباشرة، من خلال زوجها الفنان الراحل محمد باطما، الذي واصل مساره، وكان من أعمدة المجموعة وأحد مزوديها بنصوص وألحان كانت سعيدة بمثابة الملهمة لها، وفي الوقت نفسه تفرغت لتربية أبنائها طارق وخنساء وأنس. وبعد سنوات من الانقطاع عادت سعيدة بيروك للمجموعة في 2002، وقالت إنها حاولت أن تبصم على انطلاقة جديدة للمجموعة خاصة بعد رحيل اثنين من روادها وهما الراحلان زوجها محمد باطما، والشريف الأمراني، من أجل تعويض الفراغ الذي تركاه، لتضع يدها في يد من تبقى من أعضائها خاصة محمد السوسدي ومحمد حمادي ومبارك الشاذلي. وبعد سنوات من الاشتغال تفاقمت المشاكل لتنسحب بيروك من جديد وتخوض تجربة فنية منفردة اضطرت إلى خوضها، كما تقول، بعد أن ضاقت بها السبل ضمن مجموعة "لمشاهب" التي تعد واحدة من مؤسسيها، ووجدت نفسها مجددا خارج المجموعة الغنائية التي ساهمت في صنع أمجادها، ولم تعد لها إمكانية الاستمرار فيها. وانتهت الفنانة سعيدة بيروك، قبل سنوات قليلة، من تسجيل قطعتين غنائيتين جديدتين بعنوان "شمس بلادي" و"أرض السلام" من كلماتها وألحانها ضمتهما إلى ألبوم غنائي يشمل مجموعة من القطع أغلبها من تأليفها وتوزيع عادل جويش تحت الإدارة الفنية لابنها الفنان طارق باطما. وأضافت أن الألبوم سيشتمل على مجموعة أخرى من الأغاني التي ستكون بمثابة خطوات في اتجاه عودتها إلى الساحة الفنية، بعد الغياب، خاصة أنها في السنوات الأخيرة اقتصر حضورها على المشاركة مع مجموعة "لمشاهب" بعناصرها الجديدة، وعلى استعادة الريبرتوار القديم للمجموعة دون أن تتمكن من تقديم أغان جديدة، رغم توفرها على نصوص ملحنة جاهزة للتسجيل. سعيدة ملهمة "خليلي" تحكي الفنانة سعيدة بيروك، وطليقة الفنان الراحل، عن ظروف ميلاد أغنية "خليلي" قائلة إنها ولدت في لحظة خصام عائلي بينها وبين محمد باطما، أثناء سفرهما ذات مرة إلى الصويرة، إذ اكتشفا اختفاء حقيبة صغيرة بها وثائق ومعدات ثمينة، فشرعا في تراشق المسؤولية في ما بينهما، قبل أن يحتد الخلاف بينهما حد التهديد بالطلاق. وتضيف بيروك، في حديث مع "الصباح"، أن باطما تركها في غرفة الفندق وخرج، قبل أن يلتقي الراحل السعيد الصديقي الشهير بـ "عزيزي" وهو شقيق الفنان الطيب الصديقي، فحكى له ما وقع، فأقسم "عزيزي" على نفسه أن يصلح ذات البين بينهما، فطلب منه أن يستقدمها إلى المقهى الذي كانا يجلسان فيه. وتتابع بيروك أن "عزيزي" عاتبهما على تصرفهما خاصة أنهما كانا شابين في مقتبل العمر، فكتب على ورقة مقطعا شعريا جاء فيه "خليلي علاش تعاديني/ تهجرني وتخلي لي رسامي خالية" فسلمها إلى باطما هدية له، وقال له "هذا مطلع أغنية أهديها لكما بمناسبة الصلح"، فاشتغل عليها باطما وأكمل نص الأغنية في الليلة نفسها، قبل أن تظهر بعد سنوات بالصيغة التي يعرفها بها الجمهور، والتأويلات التي منحت لها، خاصة أن مقطعها الأخير كانت فيه إشارة صريحة للزعيم الصيني ماوتسي تونغ، قبل أن يتم حذفه، وهكذا كان ميلاد هذه الأغنية في ظروف عاطفية، قبل أن تتخذ منحى سياسيا.