الحمامات التقليدية…”طلق الما”

القرارات العاملية تفتح النقاش حول وظائف فضاءات للاستحمام في الموروث الشعبي وعلاقتها بترشيد المياه دخلت القرارات العاملية لوزارة الداخلية، المُفعِلة لإجراءات ترشيد المياه الصادرة عن وزارة الماء والتجهيز، حيز التنفيذ الأسبوع الماضي، إذ فرض على أرباب الحمامات، بشقيها التقليدي والعصري، العمل أربعة أيام في الأسبوع، والإغلاق ثلاثة أيام، وسط موجة غضب من مهنيين، رفضوا القرار بصيغته الجائرة حسب وصفهم، وتفهم مهنيين آخرين، ينتظرون فرصة لتفعيل المقاربة التشاركية مع السلطات العمومية، لمعالجة الملف المطلبي في شموليته.وأعادت التدابير الحالية، قطاع الحمامات التقليدية إلى واجهة النقاش العمومي، واستحضار الإكراهات القانونية والهيكلية والبشرية، وإكراهات الاستثمار والصمود في ظل الأزمة، وفي سياق متغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية، غيرت كثيرا من المفاهيم والوظائف الأساسية لهذه المهنة التي ارتبطت بمنظومة الصحة والبيئة والسلامة، وبسلوكات النظافة العامة، وموقع استغلال الموارد الطبيعية (الحطب، الطاقة، الماء) في كل ذلك. إعداد: يوسف الساكت (تصوير عبد اللطيف مفيق) منذ الأسبوع الماضي، سيكون على عدد كبير من المغاربة، في مختلف المدن والمراكز القروية بالمغرب، تغيير الأجندة الزمنية للذهاب إلى الحمام وعادات الاغتسال والاستحمام وفق تقاليد مغربية تضرب عميقا في التاريخ. ومثل الحضور إلى الحمام طقسا أسبوعيا، وموعدا قارا، بل فضاء للالتقاء وتجاذب أطراف الحديث وتبادل "الأخبار" و"الأسرار" وسط جلبة قرع الدلاء وخرير المياه، و"عبق" الروائح الطالعة من عمليات فرك الجلود، واستعمال أنواع الصابون (البلدي والعصري) ومساحيق الشعر، والأعشاب بالنسبة إلى النساء. رمزية ودلالات يقول حميد خراسي، رئيس النقابة الوطنية لقطاع الحمامات العمومية (إ.ع.ش.م)، إن الحمام المغربي، بجميع مفاهيمه، هو أكثر من مكان للاغتسال وتنظيف الجسد، بل هو منظومة من الرموز والعادات والتقاليد والقيم المرتبطة بالمروث الشعبي، مؤكدا أن هذا الفضاء، الذي يتجرد فيه الإنسان من جميع ملابسه، إلا ما يستر "العورات"، يعتبر مجالا للاسترخاء والاختلاء بالذات، والمصالحة مع الجسد المهمل في كثير من تفاصيل الحياة. وأوضح خراسي أن أي قرار رسمي للتعاطي مع فضاء الحمام، سواء بالترخيص أو المنع، ينبغي أن يستحضر الحمولة الثقافية والاجتماعية لهذا المكان، والوظائف الصحية والنفسية والاجتماعية التي يضطلع بها، وهي وظائف لا يمكن حصرها فقط في رغبة معزولة في الاغتسال من الأوساخ، وهي الوظيفة التي يمكن أن تقوم بها الحمامات الشخصية، أو الدوشات الموجودة في أغلب المنازل المغربية. تمييز مهم يعد الحمام التقليدي من أهم المرافق الاجتماعية في التاريخ المغربي، إذ شكل جزءا من بنيان المدن المغربية العتيقة، بهندسته المعمارية المتميزة، فلا يكاد يخلو حي من الأحياء بالمغرب من حمام عمومي، ووفق آخر الإحصائيات، فإن عدد الحمامات في المملكة يصل إلى 13 ألفا. وأجمع مؤرخون على أن الحمام التقليدي استطاع الصمود في وجه التحولات والتطورات التي شهدها المجتمع المغربي، على مر الأزمان، وظل محافظا على مكانته المميزة إلى جانب المساجد والأفران التقليدية في الموروث الشعبي للمملكة. ويضع حميد خراسي، في سياق دفاعه عن منظومة ترشيد المياه بالحمامات التقليدية، تمييزا بين الحمامات الشعبية الموجودة داخل أسوار المدن العتيقة في بعض المدن، مثل البيضاء ومراكش وفاس ومكناس وطنجة، وبين الحمامات الأخرى الموجودة خارج الأسوار، أو الحمامات التي استفادت من امتياز "التنطيق" المنصوص عليه في بناء وتجهيز التجزئات السكنية. ويعتبر خراسي أن الحمامات القديمة، التي يعود بناؤها إلى عشرات السنوات، والتابعة إلى منظومة أملاك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أو الأخرى الموجودة في ملكية جماعات ترابية ومؤسسات خيرية، أو بعض الثكنات العسكرية، صمام أمان ضد تبذير الموارد الطبيعية، مثل الحطب والطاقة والماء، كما تعتبر نموذجا للحفاظ على البيئة والصحة العامة والسلامة، ومن هنا تأتي أهميها. اقتصاد "الطنجير" أوضح رئيس النقابة، المسؤول أيضا عن عدد من التنسيقيات والجمعيات، أن أرباب الحمامات ينضبطون إلى القرارات العاملية، ويساهمون في المجهود الوطني لترشيد الموارد المائية، لكن في الوقت نفسه، يتطلعون إلى إتاحة فرص للنقاش وفضاءات لتبادل الأفكار وعرض مقترحات مع المسؤولين، مؤكدا أن المشكل في مكان آخر، ولا يمكن حله إلا في إطار تفكير شمولي والتجاوب مع الملف المطلبي المندمج لهذا القطاع. ومن بين الدفوعات التي يدلي بها المهنيون في هذا الإطار، أن أغلب الحمامات لا "تستغل"، كما قد يفهم خطأ، بل "تستعمل" فقط المياه الجوفية السطحية، وهناك فرق شاسع بين المصطلحين ولأن المياه الجوفية المستعملة في الحمامات لا تصل إلى الفرشة المائية، إذ تنقل المياه السطحية عبر مضخات إلى البرج (الشاطو/سعته حوالي 8 أطنان) الذي يزود بيت الماء الساخن، أو "الطنجير" بأربعة أطنان (سعة 3 أمتار طولا على متر في العرض)، وهي مياه تكفي لاستحمام 120 زبونا في اليوم، وقد تضاف إلى هذه الكمية، كمية أخرى مماثلة من أجل التبريد. وحسب هؤلاء، إن احتساب كميات المياه المستهلكة، حتى في الحالات التي يبالغ فيها بعض المستحمين في الاغتسال، لا يمكن وضعها في خانة الاستعمال المفرط الذي يقتضي إجراء زجريا من هذا النوع، ناهيك عن بعض الخسائر التي يمكن أن تترتب عن توقيف الحمامات ثلاثة أيام، ثم إعادة تسخينها وتشغيلها من جديد. تصميم ذكي أوضح رئيس النقابة أن تصميم هذه الفضاءات القديمة وأشكال هندستها بالغ الذكاء في ذلك العهد، أهدت لـ"الريبيرتوار" المعماري المغربي تحفا تراثية فنية، مازالت صامدة إلى اليوم في عدد من المدن العتيقة، إذ يعود بناء حمام سيدي بلعباس بمراكش مثلا إلى 800 سنة، في وقت تتعرض فيه حمامات حديثة العهد إلى التلف والتساقط والتشقق، وتحولت جدرانها وقاعاتها وتجهيزاتها إلى حضن للرطوبة. ويشرح خراسي كيف كان المصممون الأوائل (القادمون من بلاد الصحراء) يحرصون على تشييد الحمامات وفق هيكل هندسي صارم، يحاكي، في مجمله جسم الإنسان، إذ يوازي "الجوف" المبني في أسفل الحمام بسواريه، ضلوع الكائن البشري، بينما تمثل المدخنة الفم، ويضاهي زوجا "الشوميني" (الذكر والأنثى) الأنف. ويضيف خراسي أن الحمام يحافظ، بهذا التصميم، على درجة معينة من الحرارة لا تتجاوز 37 درجة، وهي درجة حرارة الإنسان، وهي نقطة بالغة الأهمية، ترتبط بالصحة والسلامة، وتفادي حوادث الإغماءات، أو العياء الشديد، بسبب الحرارة المفرطة. وترشيدا للمياه، يقول خراسي، يعتبر خطا أحمر بالنسبة إلى بناة الحمامات التقليدية بأشكالها وقببها وتعريجاتها الفسيفسائية ومهارة الصانع المغربي، وضع صنابير في القاعات، والاستعاضة عنها بـ"الجفنة"، أو "تفطنة"، أو "الشاريج"، للتحكم في منسوب استعمال الماء، والاكتفاء بأقل عدد ممكن من الدلاء التي تملأ بمياه دافقة، بين الساخنة والباردة. صحيا، شيدت الحمامات داخل الأسوار، بطريقة عملية للقضاء على الروائح الكريهة لفرك الأوساخ وروائح العرق في المهد، عبر تقنية خلط مواد البناء، خصوصا في "الجوف"، بأنواع من الأعشاب والطين والملح و"تدلاكت"، وهي الخليط الذي يستوطن في الجدران، ويتوزع عبقه طيلة مدة الاستحمام، ويشعر الزبون براحة نفسية فريدة من نوعها. أيضا، تحدث خراسي، الخبير في تاريخ الحمامات، عن نوعية الدلاء المستعملة في هذا الصنف التقليدي من الحمامات، وهي دلاء من عود الصندل أو الصنوبر، أو العرعار أحيانا، بأحجام صغيرة، أو متوسطة، تستهلك أقل ما يمكن من المياه التي تكفي للاغتسال والوضوء والتدليك النهائي، قبل الخروج. وقارن رئيس النقابة الوطنية بين هذا النوع من الدلاء، قيد الانقراض، وبين الدلاء البلاستيكية الكبيرة التي غزت الحمامات، وتجلبها النساء والرجال على حد سواء، إذ إضافة إلى مضارها الصحية (تفاعل الحرارة مع المواد البلاستيكية)، تعتبر عاملا من عوامل تبذير الماء، بسبب سعتها التي تزيد عن حاجة الاغتسال. وقال خراسي إن التذكير بهذه المعطيات، في غاية الأهمية في سياق النقاش المفتوح حول الحمامات العمومية بكل أصنافها، ومدى مساهمتها في هدر الموارد المائية، وهو منطلق القرارات العاملية الأخيرة، والإجراءات التي دخلت حيز التنفيذ المتعلقة بإغلاق هذه الفضاءات أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء إلى إشعار آخر. الجامعة تحتج طالبت الجامعة الوطنية لجمعيات أرباب ومستغلي الحمامات التقليدية والرشاشات بالمغرب، في رسالة مفتوحة وجهتها إلى وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، بتعليق قرار إغلاق الحمامات لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، الصادر عن السلطات المحلية في العديد من المدن. واعتبرت الجامعة، في الرسالة التي تتوفر "الصباح" على نسخة منها، أن هذا القرار "لا يقل قساوة وضررا" عن قرار الإغلاق خلال جائحة كورونا، مشيرة إلى أنه "سيحرم أزيد من 200 ألف من شغيلة الحمامات من مدخولها اليومي خلال أيام الإغلاق. وأوضحت الجامعة أن القرار المتخذ حاليا في إغلاق الحمامات لثلاثة أيام متتالية، لا يستند إلى أي معطى إحصائي دقيق، أو تبيان علمي صادر عن جهة رسمية، يؤكد بالملموس أن الحمام مسؤول عن ضياع المياه إلى حدود الإجهاد المائي. وأشارت الجامعة إلى أن قطاع الحمامات يشكل جزءا من قطاع الخدمات، الذي جاء في الدرجة الأدنى، إذ يستهلك 2 في المائة من المخزون العام للمياه. ولفتت الجامعة الانتباه إلى أن هذا القرار "سيضطر المواطنين إلى الاستحمام في البيوت عن طريق الرشاشات، الشيء الذي سيضاعف استهلاك الماء، إضافة إلى تسخينه غالبا بقنينات الغاز المدعومة من طرف الدولة". وشددت الجامعة على أن قطاع الحمامات يعتبر من الاقتصاد السوسيو الاجتماعي، الذي يضم عددا كبيرا من المستخدمين ذوي الهشاشة المدقعة، التي لا تتوفر على مؤهلات مهنية، أو تكوين خاص يخرجهم من دائرة الفقر والعجز. وفي ختام رسالتها، طالبت الجامعة وزير الداخلية بإصدار تعليماته للولاة والعمال بتعليق قراراتهم بإغلاق الحمامات أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وربط هذا القرار بحسن تنزيل مجمل مضامين المذكرة الوزارية، المؤرخة بـ26 دجنبر الماضي، واستنفاد الشروط المضمنة بها، خصوصا في ما يتعلق بإطلاق حملات للتحسيس والتوعية، بمشاركة جميع الشركاء.

الحمامات التقليدية…”طلق الما”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

السرطانات ستزداد بـ 77 في المائة

45 سنة لأقارب قتلوا جارهم بفاس

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات