الإيبوركـي: تفاهـة وفوضـى

أستاذ علم الاجتماع قال إن الثقافة الاستهلاكية والهشاشة والأمية وراء إنتاج وتتبع الرداءة قدم عمر الإيبوركي، في حوار لـ»الصباح» تفسيرات حول التسابق المحموم نحو جني المال عن طريق هذه المواقع، قبل الانتقال للحديث عما يعرض على تلك المواقع، ومدى إمكانية تخلي بعض الأسر عن قيمها من أجل المال، بالإضافة إلى محاور أخرى. في ما يلي التفاصيل: ما الذي يربط الرداءة بمواقع التواصل الاجتماعي؟ > ارتبطت الرداءة بانتشار استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وهي فترة من التحولات العميقة التي نتجت عنها قيم جديدة وسلوكات اجتماعية خلخلت البنيات الاجتماعية وبعض القوانين السائدة. صحيح أن هذه التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في خضم التحولات العالمية الكبرى، ارتبطت أساسا بالعولمة، وبالثورة التكنولوجية التي اكتسحت الجماعات والأفراد عبر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا ظهر ما يسمى بالمجتمع الشبكي الذي تتحكم فيه التكنولوجيا والبرامج الرقمية التي استعبدت الإنسان في العصر ما بعد الصناعي. إن انتشار الرداءة أو التفاهة ارتبط بفترة تحول كبرى، ونتيجة للثورة التكنولوجية التي غزت كل الفئات الاجتماعية، وكل المجتمعات. وتحديد ظاهرة التفاهة لا يتم عبر محدد واحد أو عنصر واحد كالاقتصادي أو السياسي أو الديني. وما نلاحظه اليوم من تحولات في مجتمعاتنا، ويستنبطه المتتبع لهذه الظواهر هو تنوع هذه المواقع وتنافسها على جلب أكبر عدد من الزبائن، وبالتالي تناسلها حسب المستوى الفكري والتعليمي والاقتصادي لجميع الفئات، لذلك يجد فيها كل فرد ضالته لنوعية خطابه، ولفئة مخاطبيه. بماذا يمكن تفسير التسابق المحموم نحو جني المال عن طريق هذه المواقع؟ > يتميز المجتمع المعاصر بظهور علاقات اجتماعية شبكية تتجاوز المجال الجغرافي، ونظام اقتصادي يقوم على ثورة الاتصالات، ولم يعد يعتمد على الطبقة العاملة وإنتاج السلع بل على الصور والأصوات والمعلومة التي يتم تسويقها. إن هذا التنافس المحموم على جمع المال عن طريق نشر الفضائح يسر للكثير من الأشخاص طريق الغنى وتحسين مستواهم الاجتماعي على حساب القيم الأخلاقية والدينية. فلا غرابة أن نجد آلاف بل ملايين المتتبعين الذين يبحثون عن الفضائح والتلذذ بعيوب وآفات الآخرين، وبالتالي تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منبر للتسول وجمع المال بعرض بضاعة تافهة تشكل أمراضا اجتماعية ونفسية حطمت الحواجز أمام فئة عريضة من الجهلة والأميين ليتصدروا ما يسمى «الطوندونس» ويتحولوا إلى نماذج بشرية ذات شهرة زائفة... هل يمكن القول إن هذه المواقع قلبت نظام القيم في المجتمع وأفرزت أخلاقها الخاصة؟ > في نقد علماء الاجتماع المعاصرين للمجتمع ما بعد الصناعي، يرون أن الثقافة بمعناها الواسع أصبحت تحظى بأهمية بالغة، وتحولت إلى سلعة تسوق إلى جانب الانتاج المادي الذي ركن إلى دور تابع غايته اشباع الحاجيات المستجدة للثقافة. وهكذا فإن وسائل التواصل الإلكترونية، دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا وأنشأت حولنا عالما من الخواء والفوضى. بدأت القيم الدينية والعقلانية تفسح المجال لمجتمع جديد تسوده الفوضى وتغيب فيه أنماط الحياة المستقرة، أو ما يسمى «مجتمع المخاطرة». والمجتمع المغربي اليوم، مثل غيره من المجتمعات يعرف ظواهر مستجدة، جاءت نتيجة سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي خارج المؤسسات التي عهدناها تنشئ الفرد وتحاول ادماجه ضمن المنظومة الثقافية والاجتماعية السائدة بإكسابه قيم وسلوك مجتمع ما، وبالتالي ينشأ الفرد في انسجام مع وسطه الاجتماعي والاقتصادي. أما اليوم وبحكم هذه التحولات، فقد تبلورت أدوار جديدة، وانتقلنا إلى مجتمع تطغى عليه الفردانية والتنافس وعدم التجانس بين مكوناته. هنا يمكن إدراج ظواهر رقمية وعلاقات افتراضية في خضم مجتمع شبكي تجاوزت فيه العلاقات التواصلية الحدود المكانية، وتعالت على ما هو قيمي ثقافي، وشملت جميع الفئات العمرية والاجتماعية التي كانت مستثناة، وبعيدة عن هذه الممارسات الشاذة. هذه التحولات الاجتماعية التي تشمل القيم الاجتماعية، برزت في الوقت الذي عرفت فيه أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية في مجتمع من المجتمعات مجموعة من التعديلات على مستوى الترابط الاجتماعي، ولم تعد للتقاليد الدينية والأخلاقية سيطرة في عالم اليوم، بل أضحى الأمر موكولا إلى التقنية ووسائل الاعلام البديلة والبذيئة التي تجعل الأفراد تحت وطأة الصور والرموز الافتراضية. هل ما يعرض على تلك المواقع يؤكد أن بعض الأسر تخلت عن قيمها من أجل المال؟ > أمام الضغط الذي تمارسه الثقافة الاستهلاكية، وضمن مجتمع الهشاشة والفقر، وانتشار الأمية، برزت عقلية التفاهة التي غالبا ما تنشر فكرة استعمال الوسائل التكنولوجية للخروج من دائرة الفقر، بسبب هذا الاعتقاد، ومع بعض النماذج التافهة والمؤثرة يتم تجييش الجهلة للتتبع والمناصرة والابتعاد عن كل ما هو عقلاني واقعي. وقد تحولت بعض الحالات إلى نماذج اغتنت من نشر التفاهات ونسج الأساطير، وزاد ذلك من الاعتقاد بأنها الطريق الأسهل للخروج من وضعية الهشاشة والفقر إلى رحابة رغد العيش، ما شجع رواد التفاهة على الإقبال على النشر والتشهير متجاوزين كل القيم الأخلاقية والعقلية. لقد سادت المجتمعات اليوم ثقافة جديدة، كما سادت المجتمع المغربي، والتي ترتبط أساسا بالنمط الاستهلاكي، وما لعبته بعض وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب أمام الجميع ومن كل الفئات بتوجيه أفكار واختيارات الأفراد والجماعات عن طريق الإشهار، والتشهير، والماركوتينغ. وتحولت كل فئات المجتمع على اختلاف مستوياتها إلى آليات استهلاكية تساير تجدد الحاجيات، وغابت بعض القيم الثقافية الإنسانية مثل التضامن والاكتفاء بالحاجيات الضرورية والقناعة والإيثار. رغم الانتقادات الموجهة لرداءة مواقع التواصل الاجتماعي، تحظى بمتابعة، كيف تفسر ذلك؟ > انطلاقا من طبيعة الخطاب الموجه عبر هذه الوسائل فإنه غالبا ما يسعى إلى تحريك العواطف والمشاعر أكثر ما يكون موجها للعقل، وبأسلوب قصصي يستميل الغرائز والأحاسيس، لأن أغلب الناس وفي نسبة كبيرة من المتابعين لا يرقون إلى استعمال العقل. وهنا يفترض المتحدث ضحالة المتلقي، وتصبح الرسائل تافهة على مستوى المضمون، ولكنها ذات قيمة على مستوى الموارد المالية، التي جعلت بعض الفئات تعرف نقلة نوعية في نمط عيشها، وهو ما شجع الكثير على الانخراط في موجة الرداءة، ونشر التفاهة سيرا على طريق النماذج التي اشتهرت وأصبحت معروفة لدى الناس أكثر من رجال الفن والفكر والسياسة... إن كل ظاهرة اجتماعية ترتبط أساسا بتحولات المجتمع، وفق متغيرات متعددة، لا يمكن أن نفسرها بعلة سببية واحدة. عندما نتحدث عن علاقة انتشار التفاهة بالجهل والأمية، فلذلك ارتباط بفشل المنظومة التعليمية، وبدور المدرسة مؤسسة للتنشئة الاجتماعية التي كانت إلى وقت قريب تقوم بدورها، في تناغم مع مؤسسات اجتماعية أخرى مثل الأسرة والنوادي الفنية والرياضية والمؤسسات الدينية، كل ذلك أدى في وقت من الأوقات إلى تنشئة أجيال متوازنة اجتماعيا ونفسيا وتربويا. لكن لا يجب أن ننكر التحولات التي أدت إلى تقهقر هذه المؤسسات أمام الهجمة التكنولوجية والاقتصادية التي عرفتها كل المجتمعات. فهجمة الحداثة مع اللامساواة، والفقر بكل أنواعه، وارتفاع نسبة الأمية، وفشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وضغط وسائل الاتصال واختراق التكنولوجيا للمجالات الفردية، والانفتاح على الآخر بفعل العولمة الثقافية، واكتساح مظاهر الحداثة وعقلنة تحاول إزاحة بعض الظواهر والسلوكات التقليدية، كل هذه العوامل أدت إلى ظاهرة معولمة. في سطور: - أستاذ وباحث في مجال السوسيولوجيا - حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة، ودبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع تخصص: النظريات الاجتماعية - حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، من جامعة محمد الخامس بالرباط. - أستاذ مشارك في شعبة علم الاجتماع بكل من كليتي الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعتي محمد الخامس بالرباط، وابن طفيل بالقنيطرة

الإيبوركـي: تفاهـة وفوضـى

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تتويج "الطريق" بجائزة فاس للتواصل السينمائي

تقارير سوداء عن تدبير مناطق صناعية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات