جرائم المختلين… قتل رهيب

نفذوا مجازر بشعة بعضهم حوكموا بمدد طويلة وآخرون جنبتهم خبرات طبية العقاب تهتز بلادنا بين الفينة والأخرى على وقع أخبار صادمة آتية تارة من مدن وحواضر، وأخرى من قرى ومداشر، تحمل رجع صدى مجازر وجرائم قتل ببصمة " الاختلال العقلي"، راح ضحيتها أقرباء ضمنهم أصول وفروع، كما الحال قبل 10 أيام عندما أجهز أربعيني يعاني اضطرابات نفسية، على زوجته النفساء ورضيعتها وعمه وأصاب شقيقه بجروح غائرة بأولاد فارس بجماعة سيدي علي بن حمدوش، وقبلها كان دوار القدامرة مسرح مجزرة استثنائية في تاريخ جرائم القتل بالمغرب، عندما ذبح شخص مختل 10 أشخاص ضمنهم والداه وزوجته والكثير من الأقرباء والجيران. وفي تارودانت سقطت سائحة فرنسية جثة بضربة طائشة من «مجنون"، وقبلها لقي المصير ذاته سائح فرنسي بفاس وطفلة ذات ست سنوات أسلمت الروح وهي تلعب بعتبة المنزل، متأثرة بضربة " ياجورة» صوبت من يد أحد الحمقى، هي كلها لحظات سوداء خلفت الكثير من المآسي، سيق من أجلها مختلون لمحاكمات طالت في أمدها، وانتهت بعقوبات سالبة للحرية، وفي أحيان أخرى بإخلاء السبيل والإحالة على العلاج ،وبين الحالتين معا ترتفع الأصوات مدوية ... من المسؤول عن استمرارية القتل ببصمة الاختلال؟ عبد الله غيتومي (الجديدة) عاشت عائلات مآتم حزينة، وهي تحصي خسائرها البشرية لضحايا تساقطوا فجأة على يد من تقاسموا معهم الطعام والملح وروابط دم متينة، فالزوجة النفساء الخارجة لتوها من صعوبات الوضع والمزهوة بمولودتها الأولى، كانت تعقد على زوجها أن يشملها برعاية استثنائية ضرورية في مرحلة النفاس، وأن يكون مبتهجا بالرضيعة التي أضاءت منزل الزوجية، ولم يكن أبدا يدور بخلدها، أنه عكس ذلك سينهي حياتها ورضيعتها بشكل وحشي بواسطة سكين أعدها لمجزرة رهيبة، وأنه واصل مسلسل إراقة الدماء ببقر بطن عمه حد إزهاق روحه. ولم تكن هذه المجزرة سوى شبه إعادة لمجزرة سابقة، أشد وحشية وقعت بدوار القدامرة في ماي من 2016، لما تسلح مختل عقليا له ملف طبي، بسكين وأداة حادة ومارس قتلا بالجملة، وذبح 10 أشخاص ضمنهم والداه وزوجته وزوجة أخيه وعدد من أفراد عائلته وبعض الجيران. وبسيدي إفني في منتصف ماي من 2021، أنهى مختل حياة إمام مسجد بطعنات سددها إلى عنقه. وبعد شهر منتصف يونيو من السنة نفسها، اهتز حي العفو بدرب الكبير بالبيضاء، بمصرع طفلة عمرها ست سنوات كانت تلعب بعتبة المنزل، متأثرة بطعنات غادرة من سكين استعمله مختل عقليا لإنهاء حياتها. وصدم سكان تاونات في السنة ذاتها بارتكاب مختل يبلغ من العمر 30 سنة، جريمة قتل في حق طفلة وشقيقها وامرأة مسنة. ولم يسلم الأجانب من جنسيات مختلفة من جرائم مماثلة، ومنها وفاة سائحة فرنسية (80 سنة)، بتزنيت عندما استغفلها مختل بضربات ساطور، وقبلها لقي المصير نفسه سائح فرنسي بفاس القديم. دق ناقوس الخطر الجرائم التي عرضنا لها تقيم الدليل على تفاقمها، وأيضا على تزايد ضحاياها بشكل رهيب، ما أضحى يطرح سؤالا عريضا، إلى أي حد تمضي جرائم المختلين عقليا؟ ولا ننتظر ليأتينا الجواب سريعا من اختصاصيين، يجزم، بأنه في الوقت الراهن لا تلوح إطلاقا أي بوادر مطمئنة عن إمكانية تطويق الظاهرة المقلقة، فحسب الدكتور عبد اللطيف الركادي يظل ضعف منظومة الصحة النفسية والعقلية، المتجلي أساسا في تنامي عدد المرضى مقابل محدودية فرص علاجهم، وذلك يظهر في قلة الأسرة المخصصة لهم وأيضا الأطباء المتخصصين وأطقم التمريض، واستدل على ذلك أنه قبل فترة كان جناح الأمراض العقلية بالمستشفى الإقليمي محمد الخامس بالجديدة، تحت إشراف أربعة أطباء كلهم غادروا بدون أن يعوضوا، وأضحى الإقليم برمته بدون طبيب متخصص. على واجهة أخرى تحصر إحصائيات عدد المختلين ببلادنا في 3 ملايين، بينما تظل وزارة الصحة غير قادرة على مواكبة تزايدهم باستمرار، إذ لا توفر سوى أقل من طبيب لكل 100 ألف نسمة، بينما تفرض المعايير الدولية 4 أطباء لكل 100 ألف نسمة وفي المغرب كله لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في القطاع العمومي 200 طبيب، بينما يسجل نقص في الطاقة الاستيعابية للمرضى، والتي تفاقمت بإيواء مرضى «بويا عمر» بمختلف مستشفيات بلادنا، في حين تظل الشوارع مأوى المختلين عقليا الذين يعتبرون " جرائم موقوتة" تنذر في أي حين بمجازر في حق ضحاياها من الأبرياء. محاكمات طويلة وخبرات ثلاثية معطلة أحيل الكثير من المختلين ممن ارتكبوا جرائم قتل، على محاكمات بمختلف محاكم المملكة و استأثرت بمتابعة من الرأي العام، وفي الوقت الذي كان ممثلو الحق العام يطالبون باعتبار من أتوها أسوياء يتعين القصاص منهم وإنزال أقصى العقوبات بهم حد الإعدام، انبرى في أكثرها دفاعهم مطالبا بتمتيعهم بخبرات طبية تجنبهم العقاب، ففي محاكمة سفاح القدامرة قاتل عشرة أشخاص، عاقبه المرحوم نور الدين فايزي بالإعدام في المرحلة الابتدائية، بينما أدلى دفاعه في الاستئناف بتقرير خبرة طبية ثلاثية تأخرت أكثر من سنتين، ما جعل القضية تأخذ قرابة ثلاث سنوات، كانت الخبرة المذكورة الصادرة عن مستشفى الأمراض العقلية ببرشيد، تؤكد أنه ناقص القوة العقلية في الوقت الحالي، ولم تحسم في أنه كان منعدم التمييز في أفعاله لحظة ارتكابه للمجزرة الرهيبة. وفي مثل هذه الحالات ينتصب ممثل الحق العام متصديا، لمثل هذا النوع من الخبرات كما فعل محمد الدك، نائب الوكيل العام، في مداخلة اعتبرت مرجعية أسسها على أن الخبرة الثلاثية، لم تحسم في انعدام قواه العقلية ما يجعله فاقدا للتمييز، وينجم عن ذلك سقوط مسؤوليته عما ارتكبه من أفعال، والحال يضيف ممثل النيابة العامة، أن الخبرة أكدت أنه منقوص القوى العقلية، ممن يعتبرون ضمن خانة ذوي الجنون المتقطع، ويتعين الإبقاء على عقوبة الإعدام في حقه، التي حولت إلى المؤبد. مستشفيات أمراض عقلية أم سجون؟ في ظل غياب عدالة حقيقية للولوج إلى العلاج النفسي ببلادنا، اختلط الأمر على المسؤولين، إذ تحولت الكثير من المستشفيات المتخصصة في العلاج النفسي والعقلي، سجونا مع وقف التنفيذ لأشخاص ارتكبوا جنايات خطيرة، ومكنتهم خبرات طبية ثلاثية من ثلاثة أطباء متخصصين، أكدوا أنهم كانوا فاقدي القوى العقلية زمن ارتكابهم لها، وعليها ترتبت أحكام بإعفائهم من السجن وإحالتهم عل إقامة طويلة الأمد بالمستشفيات المتخصصة، وعلى خلفية ذلك وبدل أن يستمر مستشفى برشيد الذي شيدته فرنسا سنة 1918 على مساحة 52 هكتارا ويضم 17 جناحا، وجرى توسيع طاقته الاستيعابية بعد الاستقلال لتصل إلى 2000 سرير، في علاج المرضى وهي الوظيفة التي أحدث لأجلها، أضحى ملحقة للسجون المغربية خاصة تلك المنتشرة بتراب جهة البيضاء سطات، يمضون فيه فترات علاجية طويلة، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل، عن قدرة أطر المستشفى على القيام بمهمة التمريض وحراسة " المختلين / السجناء" والحيلولة دون هروبهم، وهي الأوضاع نفسها بمستشفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية وكل المستشفيات العمومية المماثلة. مختلون أفلتوا من العقاب لا ترفض الخبرات الطبية من قبل المحاكم كل مرة، فقد اعتبرت هيآت حكم متابعين في جرائم قتل "مختلين بالفعل» وأسقطت عنهم العقاب وقالت بضرورة إدخالهم للعلاج بمستشفيات عمومية إلى حين شفائهم، وهي وضعية امرأة متزوجة بالجديدة رمت قبل أكثر من 12 سنة بطفلتيها الصغيرتين 4 و6 سنوات من سطح بأعلى الطابق الرابع، وأردتهما قتيلتين وكانت لحظتها فاقدة للتمييز بحسب تقرير خبرة طبية، ولا زالت الأم منذ ذلك الوقت نزيلة بمستشفى الأمراض العقلية والنفسية ببرشيد. وبإحدى قرى إقليم الجديدة ارتكب شخص مجزرة، في حق الجيران راح ضحيتها ثلاثة أشخاص ضمنهم فتاة وشيخ مسن وامرأة، بعد أن تسلح ب" عتلة" وأراق دماءهم في أماكن متفرقة، وكان لحظتها في حالة هيجان، تطلبت جهودا مشتركة بين الدرك الملكي بإقليمي الجديدة وسيدي بنور لإيقافه، ولدى محاكمته عرض على خبرة طبية ثلاثية قالت بانعدام تمييزه لحظة إجهازه على ضحاياه، وتم على خلفية ذلك قرار المحكمة بإيداعه بمستشفى برشيد، حيث مكث به قرابة سنتين للعلاج، ولما شفي تماما غادره وتزوج وانخرط مجددا في حياته العادية. المسؤولية الجنائية بين النقص والانعدام قال يونس الكوميخي، محام متمرن بهيأة المحامين بالجديدة، إن الأصل في الإنسان سلامة العقل والقدرة على التمييز، وكلاهما مناط المسؤولية الجنائية، وهذا ما نص عليه المشرع المغربي في الفصل 132 من القانون الجنائي عندما قرر بأن "كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي يرتكبها"، غير أن المسؤولية الجنائية قد تنعدم أو تنقص عندما يكون مرتكب الفعل الجرمي مصابا بخلل عقليا أو ضعف عقليين. وأضاف الكوميخي، في تصريح لـ"الصباح"، أنه حسب مقتضيات الفصل 134 من القانون الجنائي فإنه: «لا يكون مسؤولا ويجب الحكم بإعفائه من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه في حالة يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية»، وعليه فإن إثبات الخلل العقلي هو من اختصاص قاضي الموضوع وللمحكمة أن تتحقق من وجود الخلل بالاستعانة بخبرة طبية وهو ما يفهم من خلال مقتضيات الفصل 76 من القانون الجنائي والفصلين 78 و 79 من القانون نفسه. وأورد المتحدث نفسه، أنه عندما يتبين لمحكمة الموضوع أن الجاني وقت ارتكابه الفعل الجرمي كان فاقدا للإدراك و الإرادة تصرح بانعدام مسؤوليته الجنائية وتحكم بإعفائه، وفي حالة استمرار الخلل العقلي تأمر بإيداعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، ومن هنا يتبين أن المشرع المغربي استحضر المقاربة العلاجية عوض المقاربة الزجرية و التي مازالت تتطلب إشراك مختلف الفاعلين نظرا لارتباطها بعلم النفس الذي يتسم بخصائص تميزه عن باقي العلوم. أما في ما يتعلق بالمسؤولية الجنائية الناقصة فإن المحكمة إذا ثبت لها أن مرتكب الجريمة كان وقت ارتكابه لها مصابا بضعف في قواه العقلية تطبق مقتضيات الفصل 78 من القانون الجنائي حيث تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل، كما أنها تصدر الحكم بالعقوبة وتأمر إذا اقتضى الأمر بإدخال المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية ومدة بقائه في هذه المؤسسة تخصم من مدة العقوبة، وهذا ما تجسد من خلال مجموعة من الأحكام الصادرة عن مختلف محاكم المملكة التي تأتي أحيانا مخففة و أحيانا أخرى مشددة، تصل إلى الإعدام، حيث يحكم القاضي باقتناعه الصميم. وبذلك تختلف المسؤولية الجنائية الناقصة عن المسؤولية المنعدمة التي لا يمكن للمحكمة إلا أن تصرح بإعفاء الجاني و إيداعه في مؤسسة للعلاج، طالما استوجب ذلك الأمن العام و علاج الشخص المأمور بإيداعه. تدوينات تطالب بأقصى العقاب عقب مجزرة سيدي علي بن حمدوش المتاخمة لأزمور، جاءت تصريحات من والد الزوجة الضحية والذي نفى أن يكون صهره الجاني مختلا عقليا، وطالب بعقابه بحجم جرمه الكبير، بينما في الطرف الثاني أقرباء الزوج مرتكب المجزرة، يدفعون بأنه غير سوي وأن حالة الاكتئاب الحادة، التي انخرط فيها جراء تعرضه لعملية نصب وفقدانه مصدر رزقه، تكون هي العامل الرئيسي الذي حرك ميولاته العدوانية ضد أعز الناس إليه، وطالبوا باعتماد ظروف التخفيف في حقه. ومثلما تفرق الأقرباء في الحكم على ما أتاه من جرم مشهود، انقسم كذلك رواد التواصل الاجتماعي في تعاليقهم المختلفة. فمحمد وصف المجزرة بالرهيبة وقال" هاذ الشي خايب بزاف الله يستر وصافي"وردت عليه فاطمة" الله راه ساتر، البشر خاصو يراجع نفسو.. هاذ شيخطير". فيما علق بوشعيب « أظن أن الفاعل ماشي بعقلو، لانه حاول الانتحار قبل المجزرة بشرب سم فلاحي" رد عليه آخر" فين هي وزارة الصحة راه داوه مستشفى الأمراض العقلية بالدارالبيضاء، ورفضوا يعالجوه" رأي أثار حفيظة عبدالعالي الذي انفجر قائلا" وزارة الصحة هي المسؤولة عن عدم توفير العلاج والأماكن المختصة في علاج الأمراض العقلية والنفسية،الله يلطف وصافي حنا فين غادين" شخص آخر انفجر في تدوينة ويبدو من أقارب الزوجة القتيلة" هاذا راه بعقلوراه ذبحهم فحال الدجاج، البنية البريئة أش من ذنب دارت، راه بغينا حقنا وخاصو الإعدام" وجاء رأي مضاد له ليؤكد أن الخبرة الطبية هي التي ستبين فعلا سلامة قواه العقلية من عدمها، ولخص ذلك عبداللطيف بالقول" ما نعطيوش أحكام بالزربة راه كاين أطباء غادي يكشفو الحقيقة ديالو" بينما تحسرت خديجة واصفة المجزرة بالمصيبة الكبرى"مصيبة كبيرة الله يرحمها كانت بطلة في الكراطي ظريفة الله يأخذ فيه الحق غصب ليها شبابها" وتوالت التعاليق والتدوينات تطالب بأن يكون العقاب ثقيلا عليه، حتى يكون عبرة لآخرين، بينما أخرى التمست له ظروف التخفيف ملخصة ذلك " الله لي عالم بيه وصافي". وبين الطرفين استمع إلى الجاني في محضر رسمي من قبل المركز القضائي للدرك الملكي ، وأحيل على الوكيل العام الذي أحاله على قاضي التحقيق بصك اتهام ثقيل تصل عقوبته إلى الإعدام.

جرائم المختلين… قتل رهيب

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لعنة "بيجوان" تطارد جماعة أكادير

بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على أداء شبه مستقر

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات