معلمة يعود تاريخها إلى القرن 18 تختزل تاريخا من التدين المغربي تختزل زاوية ابن احميدة بإقليم الصويرة، جانبا من التاريخ الديني والصوفي للمغرب، خلال مرحلة كانت الزوايا تساهم في صناعة الهوية المغربية. في هذا الخاص تقودكم "الصباح" في رحلة عبر أرجاء هذه المعلمة التي ارتبطت بطائفة ركراكة وزواياها ومواسمها الربيعية، فضلا عن أدوارها التربوية من خلال مدرستها القرآنية للتعليم العتيق. إنجاز: عزيز المجدوب ـ تصوير: أحمد جرفي (موفدا "الصباح" إلى الشياظمة) في الوقت الذي تتواصل فيه فعاليات المواسم الربيعية لركراكة المعروفة ب"الدور" بأماكن مختلفة من الصويرة، بطقوسها والتجمعات البشرية التي تلاحقها أينما حلت وارتحلت، تستكين زاوية ابن احميدة لهدوئها الذي يلازمها طيلة أيام السنة، في عليائها على هضبة تشرف على مناظر طبيعية خلابة، لعلها كانت السبب المباشر في اختيارها من قبل مؤسسها قبل قرون لتكون مقرا لزاوية وخلوة دينية للتدبر في الخالق والملكوت. تقع زاوية بن حميدة التي تقع بجماعة قروية تحمل الاسم نفسه، (توجد على بعد حوالي 50 كليومترا عن الصويرة في اتجاه آسفي) على ربوة لا تبعد عن الطريق الوطنية رقم 1 سوى بأقل من ثلاثة كيلومترات، وتطل على مركز بيركوات الذي يلوح من الأفق غربا. طقوس مرعية لـ «الدور» لا يخطر للزائر الذي يتحرك وسط الأزقة التي يتشكل منها التجمع السكاني الصغير الذي يحيط بزاوية ابن احميدة، في صمت مهيب يجلل المكان، أن هذه الرقعة تتحول في وقت من أوقات السنة، إلى بؤرة للحركية لحظة خروج الخيمة الركراكية محملة على جمل إيذانا بالانطلاق الفعلي لمواسم "الدور الربيعية"، ضمن طقوس مرعية منذ قرون، تكرس المكانة الرمزية لهذه الزاوية في منظومة الزوايا التي تتشكل منها طائفة ركراكة، إذ تعد زاوية "نقيب" الطائفة. صبيحة يوم خروج الخيمة الركراكية، ترتدي القرية الصغيرة حلة جديدة استعدادا لاستقبال هذا الطقس السنوي الذي يبث الدفء في أوصالها، وتتحول بين عشية وضحاها إلى سوق شعبي يحج إليه الباعة من كل فج عميق، وينصبون خيامهم عند مغرب شمس اليوم الذي يسبق حضور الطائفة الركراكية بزاوية "ابن احميدة"، لتبدأ معاملاتهم التجارية مع زوار "الدور" خلال الساعات الأولى من صباح اليوم الموالي. وينطلق طقس خروج الخيمة الركراكية، من منزل نقيب الطائفة الركراكية في موكب مهيب يتقدمه أعيان الطائفة ورموزها ومريدوها والمنتسبون إليها، في اتجاه زاوية ابن احميدة حيث توجد المدرسة القرآنية العريقة التي تشتهر بها المنطقة، وتستخرج منها الخيمة التي تُهيأ يوما قبل هذا الطقس وتخضع لإصلاحات وترقيعات إن اقتضى الأمر ذلك. استقبِل الوفد من قبل طلبة وأساتذة المدرسة القرآنية، بتلاوة القرآن وترديد الأمداح النبوية والأذكار الصوفية، يتقدمهم بعض الشباب الذين يحملون أطباق "عصيدة الذرة"، التي يتهافت عليها الرجال والنساء والأطفال كل يحاول أن ينال نصيبه من الطبق ولو تعلق الأمر بلقمة صغيرة تُذهب عنهم البأس والأذى حسب الاعتقاد الشائع محليا. لا تتوقف الطقوس المصاحبة لخروج الخيمة فقط على التذوق من أطباق "العصيدة"، بل ترافقها طقوس أخرى منها ترديد أزجال وتراتيل وأمداح نبوية خاصة يتلوها تلاميذ الزاوية، فيما ينبري أفراد الطائفة الحمدوشية لأداء مردداتهم الشعبية، وسط تجاوب ملحوظ من قبل الجموع الغفيرة التي ملأت الساحة التي توجد أمام باب الزاوية في انتظار خروج "الخيمة"، وكل هذا في ظرف زمني من المفروض ألا يتجاوز ساعة، وقبل أذان صلاة الظهر. وقبل وقوف الجمل الذي يحمل الخيمة، يشرع مقدمو زوايا ركراكة في حصة من الأدعية، معلنين دخول "الدور" مرحلة جديدة تتسم بحضور الخيمة في كل أطواره، في الوقت الذي خلت فيه المحطات الأولى وهي زاوية "علي بن بوعلي" (بمنطقة أقرمود)، حيث تعطى الانطلاقة الأولية، وتليها زاوية "سيدي علي لكراتي" ثم زواية سيدي محمد بن عبد الجليل (تالمست)، (خلت) من حضور الخيمة. هذا ما يحدث لحظة حضور مواسم "الدور" بزاوية بن احميدة، أما بقية الأيام العادية فلا شيء يخترق هدوء المنطقة سوى همهمات طلبة المدرسة القرآنية الصادرة من خلف جدران الزاوية زارعين بذلك دفئا روحيا في أرجاء المرافق المكونة للتجمع السكاني الذي تتشكل منه جماعة ابن احميدة، التي تتجمع حولها مصالح إدارية منها مقر الجماعة القروية ومركز البريد والمركز الصحي ودار الشباب ودار الطالبة وغيرها من المرافق. مدرسة قرآنية بإشعاع إفريقي يتطلب بلوغ زاوية بن احميدة اجتياز منحدر معبد صعودا نحو قمة الهضبة التي تعتليها الزاوية، وعبور أزقة ملتوية جدرانها مطلية باللون الأبيض الذي يزداد نصاعة، مع انعكاس شمس الأصيل عليه، تفضي إلى مدخل الزاوية. كان في استقبالنا أحد موظفي إدارة المدرسة القرآنية العلمية العتيقة، الذي قادنا في جولة عبر أرجائها. إذ بمجرد ما تجتاز عتبة الزاوية تطالعك باحة فسيحة مظللة، على اليسار، تتخللها أعمدة وسواري ومفروشة بزرابي حمراء، يجلس عليها طلبة من مختلف الأعمار وهم يستظهرون آيات القرآن ويحركون رؤوسهم جيئة وذهابا، ممسكين بألواحهم الخشبية المكتوبة ب"الصمق". منهم من يجلس وسط الفضاء متربعا، ومنهم من يستند بظهره على الحائط أو سارية. من بين الطلبة كانت هناك وجوه وسحنات ولكنات توحي بأن أصحابها يتحدرون من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وهنا يكشف لنا مرافقنا أن المدرسة القرآنية التابعة للزاوية تعززت منذ سنوات بانتساب هؤلاء الطلبة، الذين تجاوبوا بسهولة مع أسلوب التعليم فيها، وتشبعوا بالطريقة المغربية في الترتيل وحفظ القرآن، ليتدرجوا في مختلف الأطوار التعليمية التي تغطيها المدرسة منذ التعليم الأساسي إلى الثانوية. يقول عبد العزيز المقدم، مدير المدرسة القرآنية ونقيب الطائفة الركراكية، إن المدرسة تضم أزيد من 300 طالب، ذكورا وإناثا، وأيضا من جنسيات مختلفة، فضلا عن أقسام داخلية، تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وأضاف المقدم أن الزاوية خضعت لإصلاحات وتوسيعات خلال السنوات الأخيرة، ليضاف إليها جناح متحفي يضم عشرات الوثائق والمخطوطات التي تعكس جانبا من تاريخ الزاوية والطائفة الركراكية بشكل عام، منها ظهائر ومراسلات سلطانية، ومنها مؤلفات علمية وفقهية وغيرها من النفائس التي تختزنها. وبجولة داخل أرجاء الفضاء يتضح أنه يتشكل من أجنحة تقود إليها ممرات ودهاليز توحي بعتاقة المكان وعراقته، إذ تنقسم إلى ثلاثة فضاءات رئيسية أولها المدرسة القرآنية بمرافقها الإدارية وأقسامها والجناح الداخلي الملحق بها، ثم الفضاء الخاص بدار الضيافة والمتحف الملحق به، وهو المخصص للاستقبالات الرسمية خلال مناسبات مختلفة، إذ تعد مؤسسة النقيب بزاوية ابن احميدة بمثابة المخاطب الرسمي لزوايا ركراكة مع السلطات والجهات الرسمية، والمشرفة على كافة تدابير المواسم والأنشطة التي تنظمها الطائفة. أما القسم الثالث فيضم المسجد وضريح الشيخ حمو بن احميدة المؤسس للزاوية، فضلا عن مدفن عائلي ملحق به، يضم رفات أبناء وأحفاد وسلالة هذا الشيخ الصوفي الذي يرجع له الفضل في تشكيل أركان هذا الصرح الديني والصوفي المميز في تاريخ المغرب. نفوذ روحي وديني وتشير العديد من المصادر التاريخية إلى أن السلطان المولى إسماعيل، في القرن الثامن عشر، بالقدر الذي كان يريد توحيد البلاد وبسط نفوذ الدولة على مناطق الجنوب التي كانت زاخرة بالرباطات والزوايا وما تشكله من قوى موازية لقوة الدولة، بالقدر الذي انزعج من المكانة التي تحظى بها هذه الزوايا في تلك المناطق. وكانت زوايا ركراكة تتمتع بنفوذ روحي وديني واسع في المناطق التي كانت تسود فيها، بإقليم الصويرة، بحكم أن المنتسبين إليها، يعتقدون بأن الرجال السبعة المؤسسين زاروا النبي محمد بالشرق وأسلموا على يديه، وعادوا إلى المغرب ناشرين للإسلام، في أوساط القبائل الأمازيغية، وخاضوا حروبا ضروسا من أجل هذا، مما منحهم مكانة سياسية وروحية رفيعتين. كان أول إجراء سعى به السلطان المولى إسماعيل إلى كسر شوكة الركراكيين حتى يضمن عدم ثورتهم، هو التحقق من مسألة "صحبة سادات الركراكيين" فسأل علماء فاس لهذا الغرض فأجابوه بأن لا صحبة لهم. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تجاوزه إلى تكليف كل من الشيخ عبد القادر الفاسي والشيخ الحسن اليوسي بتحويل مزارات أولئك السادات إلى مراكش، ومن هنا جاءت فكرة سبعة رجال الذين اشتهرت بهم المدينة الحمراء. ولم تنكسر شوكة الركراكيين بذلك الإجراء، بل أعاد السلطان نظره في هذا الموقف بعد أن اتصل به أحد علماء ركراكة وهو الشيخ الصوفي محمد بن احميدة الذي زار المولى اسماعيل في مكناس وأقنعه بصحبة أولئك السادة وسلامة هوية أحفادهم، ويظهر هذا الاقتناع السلطاني من خلال الظهائر التي بدأت تتواتر منذ ذلك العهد حتى عصرنا هذا. شيوخ مروا من هنا يشير الباحث أحمد الهدري، ضمن الكتاب الجماعي "الصويرة.. الذاكرة وبصمات الحاضر" أن زاوية بن احميدة تنتسب إلى مؤسسها الشيخ محمد بن احميدة وهو من أحفاد سيدي سعيد السابق الركراكي، أحد سادات ركراكة السبعة، وظلت هذه المدرسة والزاوية تؤدي أدوارها الدينية والتربوية حتى بعد وفاة مؤسسها سنة 1727 م وهي السنة نفسها التي توفي فيها السلطان المولى إسماعيل الذي عينه نقيبا على الطائفة بموجب ظهير سلطاني. وتعرضت الزاوية للهجوم والتخريب أكثر من مرة خلال فترات الاضطرابات السياسية وانتقال الحكم من سلطان إلى آخر، ومضايقات من قبل بعض قياد زمن ما قبل الاستعمار، الذين كانوا يتضايقون من نفوذها الروحي. ومن الأسماء التي درست بزاوية بن احميدة خلال فترات الحماية الأولى، يقول الهدري، هناك الشيخ عبد الله بن الطيب البوعزاوي وتلميذه عبد النبي القشاش الشيظمي، كما درس بها علماء زائرون خلال عدة زيارات عابرة منهم الشيخ اليوسي وأبو شعيب الدكالي والشيخ عبد الحي الكتاني. وخلال مطلع الثلاثينات درس بها الشيخ البشير العبدي ثم خلفه سعيد الجرموني الذي درس القراءات العشر ومر منها الفقيه مبارك الخواضري قبل أن تعيش فترة ركود منذ أواسط الأربعينات، إلى حدود منتصف الثمانينات حين أعاد لها نقيب الزاوية الراحل الحاج محمدان الحياة، فانتدب لها فقهاء مختصين لتدريس المتون العلمية والقراءات والرياضيات والفرنسية والمنطق، قبل أن يواصل نجله عبد العزيز المقدم المسار.