دستور 2011 سن قواعد لمراقبة ما يصدر عن ممثلي الأمة وباسمها. (2/2) نظمت هيأة المحامين بتطوان ندوة حول "أزمة التشريع بالمغرب بين مطلب الحكامة وغياب الفاعلية على ضوء مشاريع القوانين الجديدة". ولمقاربة الجواب عن سؤال الندوة يستلزم الأمر تحديد مفهوم التشريع، لنخلص إلى البحث عن حقيقة وجود أزمة فيه. عبد الكبير طبيح * المدخل الثاني: إعادة فحص آلية التفويض أحدث دستور 2011 تحولا كبيرا في كيفية ممارسة الأمة لسيادتها، وهو التحول الذي نرصده من مقارنة صياغة الفصل 2 من دستور 1996 التي هي الصياغة نفسها، التي اعتمدت في كل الدساتير منذ 1972، والتي كانت تنص على ما يلي: "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبطريقة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية". بعد ذلك تم استعمال كلمة "بواسطة" لتحل محل كلمة "على يد" التي كان ينص عليها الفصل 2 منذ دستور 1962. غير أن التحول المتحدث عنه سيحدثه دستور 2011 والذي سيصبح الفصل 2 منه ينص على ما يلي: "السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. "تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم". وهكذا أصبحت ممارسة الأمة للسيادة بطريقة غير مباشرة لا تتم على يد أو بواسطة المؤسسات الدستورية، بل غير دستور 2011 كيفية ممارسة الأمة لسيادتها، لتصبح ممارستها لتلك السيادة تتم عن طريق: "ممثلي الأمة الذين تختارهم في المؤسسات المنتخبة". إن تغيير آلية ممارسة الأمة لسيادتها يعتبر نقلا لاختصاص سن القانون من الصلاحيات الدستورية للملك، التي كان يمارسها بمقتضى ظهير باعتباره الممثل الأسمى للأمة، إلى اختصاص لممثلي الأمة المختارين في المؤسسات المنتخبة. وهكذا عندما نقارن الفصل 71 من دستور 2011 مع الفصل 46 من دستور 1996 أو ما يماثله من الدساتير السابقة، سنلاحظ الفرق الكبير والاختصاص الموسع لممثلي الأمة في سن القانون الذي يؤثر مباشرة إيجابا أو سلبا في الأمة أي في أفراد ومواطني المجتمع. لكن هل دستور 2011 وهو يسند لممثلي الأمة الاختصاص الحصري لسن القانون، هل ترك لهؤلاء سلطة مطلقة غير مراقبة؟ أم أن الدستور سن قواعد لمراقبة ما يصدر عن ممثلي الأمة وباسمها؟ الجواب هو أن دستور 2011 وهو ينقل ويحصر اختصاص سن القانون في ممثلي الأمة المختارين من قبلها في المجالس المنتخبة، أخضع ممثلي الأمة لنوعين من المراقبة: - مراقبة دورية، وتتمثل في تجديد عملية انتخابهم، علما أن طبيعة هذا التجديد تجعل المواطن مسؤولا عن محاسبة من انتخبهم. وتمكنه من أن يرتب الآثار على تلك المحاسبة سواء بتجديد الثقة فيهم او باختيار غيرهم. - مراقبة لحظية: يمارسها الفرد ضد كل قانون تريد المحكمة تطبيقه عليه، إذا لاحظ أن في ذلك القانون مسا وإخلالا بالحقوق التي يخولها له الدستور، وهي المراقبة المنصوص عليها في الفصل 133 من الدستور. الدفع بعدم دستورية قانون من الواضح أن الفصل 133 من الدستور لم يخلق لغرض شكلي مسطري، بل هو آلية دستورية سنت للمواطن لـتأكيد سلطته على من ينتخبه، وتأكيد حقه في مراقبة من يمثله في البرلمان، لكن هل حمى حقوقه الأساسية في سنه وتصويته على القانون باسمه؟ إن حق المواطن في اللجوء إلى المحكمة الدستورية يعني حقه في إعادة فحص آلية التفويض النيابي الذي سبق له أن أعطاه لمن يمثله في المؤسسات المنتخبة. ذلك أن ممارسة الدفع بعدم دستورية قانون تعني أن المواطن الذي سيطبق عليه قانون معين الذي صوت عليه من سبق له أن اختاره ممثلا له عن طريق الانتخاب، لاحظ، أي ذلك المواطن، أن ذلك القانون يمس بالحقوق التي أكسبها إياه الدستور، لهذا أعطاه الدستور نفسه الحق في الطعن في القانون الذي صدر عمن فوض له ممارسة السيادة باسمه. إن هذا التحول المهم في نقل اختصاص سن القانون مما هو ثابت، أي من اختصاصات الملك، إلى ما هو متحول، أي اختصاص من يمثل الأمة، سواء كان حكومة أو برلمانا، لم يترك بدون مراقبة، وإنما أحيط بمراقبة أرجعت للفرد حق فحص آلية التفويض الذي أعطاه لممثليه الذين اختارهم في المؤسسات المنتخبة. غير أن الفرد في المجتمع قد لا يتضرر من صياغة نص قانوني، بل يتضرر من طريقة تطبيق ذلك النص القانوني عليه. وهنا ننتقل إلى المدخل الثالث من هذا العرض. المدخل الثالث: أثر القانون على الأفراد والجماعات إن طابع التجريد الذي يتسم به القانون شرطا لشرعيته، ووجوب خضوع الجميع له، يجعل منه قانونا بدون أب معروف يمكن الرجوع إليه وتحميله مسؤولية آثار سوء تطبيقه على الفرد. وتتجلى فكرة أن القانون ليس له أب معروف في كونه يصدره ممثلو الأمة انطلاقا من أغلبية تتحكم فيها المصالح التي تعتبرها تلك الأغلبية عن حق أو باطل، بأنها هي المصلحة العامة. علما أن الأغلبية لا يصدر عنها دائما قانون يحمي المصلحة العامة، بل قد يصدر عنها ما يمس بالحقوق الطبيعية للإنسان كحق الملكية، كما سنرى في ما بعد. كما أن تفسير ذلك القانون وتأويله وشرح مكوناته يقوم به الأساتذة في الجامعات الذين لم يحضروا البرلمان ليعلموا بالظروف والأسباب التي تحكمت في إصدار ذلك القانون. علما أن ثقافة تفسير القانون في المغرب، هي وليدة تداخل ثلاث ثقافات قانونية في التفسير والتأويل القانوني: - ثقافة أساتذة للقانون درسوا وتعلموا وكونوا ثقافتهم القانونية من خلال الفكر القانوني الفرنسي خاصة والأوربي عامة. المنبثق من فترة النهضة المؤسسة على ضمان الحرية الفردية والجماعية. - ثقافة أساتذة من الشرق، الذين لم تتح لهم فرص الانفتاح نفسها في بلدانهم، بل عاشوا تحت ظل ثقافة سياسية فردية تعتبر الحقوق الفردية والجماعية ليست أولوية. - أساتذة تعلموا على يد هؤلاء وشكلوا وجها لاندماج هذه الثقافات في فهم وتفسير وتأويل القانون. لكن، هؤلاء الأساتذة كذلك بقوا بعيدين عن المعمل الذي يصنع فيه القانون وهو البرلمان، بسبب عدم انفتاح الأحزاب التي تشارك في الفعل السياسي عليهم. وبعد ما ينهي الأستاذ الجامعي تفسيره وتأويله للقانون تتدخل سلطة أخرى، هي التي تواجه وتخضع الفرد والمجتمع لتفسيرها وتأويلها للقانون الخاص بها وهي القضاء. فالمواطن عند خلافه مع القانون لا ينظر لا إلى من صوت عليه، ولا الى من فسره وأوله، بل ينظر إلى من يطبقه. حقا إن دستور2011 نص على أن القضاء سلطة مستقلة، وهذا مكسب مهم ، لكن، عندما ينص الدستور في فصله 6 على أن القانون ملزم للجميع، وأن الجميع متساوون أمام القانون، فيجب أن يشعر المتقاضي بالتطبيق الصحيح والمتساوي لما ينص عليه الدستور. أي يشعر بالمساواة في الأحكام القضائية التي تطبق القانون. وتطبيق القانون يطرح تساؤلا آخر حول مفهوم تعليل الأحكام ومفهوم الاجتهاد القضائي. المدخل الرابع: المساواة أمام القانون تلزم المساواة في الأحكام فتح نقاش كبير بعدما نص دستور 2011 على نقل القضاء إلى درجة السلطة المستقلة عن السلطة التنفيذية والتشريعية. وذلك بالنص عليها بكل وضوح في الفصل 107 من الدستور من جهة. كما نص الفصل نفسه على أن الملك هو ضامن لاستقلال السلطة القضائية، إذ ورد في ذلك الفصل ما يلي: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية. "الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية". ولقد بادر جلالة الملك إلى ترجمة الدستور على أرض الواقع عندما أصدر أمره بتنفيذ القوانين المتعلقة بتأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا بإصدار جلالته الظهير الشريف بتنفيذ القانون 33.17 المتعلق بنقل سلطات وزير العدل في ما يخص الدعوى العمومية الى رئيس النيابة العامة. لكن، عندما طرأ خلاف أو تباين حول مفهوم استقلال القضاء، فإن جلالة الملك سيتدخل في مناسبة لاحقة ليحسم الخلاف والتباين حول المفهوم الحقيقي لاستقلال السلطة القضائية. وذلك عندما ضمن ذلك وبصفته الدستورية كذلك كضامن لاستقلال السلطة وفقا لأحكام الفصل 107 من الدستور، في الرسالة التي وجهها إلى المؤتمر الدولي الأول للعدالة حول استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة، التي عقد يوم 02/04/2018 بمراكش، إذ ورد في الفقرة 15 من تلك الرسالة ما يلي: "بغض النظر عما حققه المغرب من إنجازات، في بناء الإطار المؤسساتي لمنظومة العدالة، فإنه يبقى منشغلا، مثل كل المجتمعات التي تولي أهمية قصوى للموضوع، بالرهانات والتحديات التي تواجه القضاء عبر العالم". "ويأتي في مقدمة هذه التحديات، ضمان تفعيل استقلال السلطة القضائية في الممارسة والتطبيق"، باعتبار أن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وأنه إذ يرتب حقا للمتقاضين، فإنه يلقي واجبا على عاتق القاضي." فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من "القانون وحده مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته. وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية. ويتبين إذن أن جلالة الملك أكد على أن القانون يجب أن يكون هو الحكم بين المتقاضين، بل عزز تأكيد ذلك عندما استعمل تعبير أن يجعل القاضي القانون وحده مرجعا لقراراته. غير أنه من الملاحظ أن كل من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع قانون المسطرة الجنائية هما المشروعان اللذان سيحددان كيفية إصدار الأحكام على المتقاضي، إلا أن أيا منهما لم يشر إلى ما أتى به دستور 2011 من مكتسبات، ولا إلى ما أتت به الرسالة الملكية، ولم تدمج فيها تطبيقات واضحة للفصل 124 من الدستور الذي ينص على: "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون." علما أن دستور 1996 وما قبله كان ينص في الفصل 83 فقط على ما يلي: "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك." بينما دستور 2011 أشهد على التحول الذي يجب أن تخضع له الأحكام القضائية بضرورة التزامها بتطبيق القانون، وهو ما يعني أن الحكم الذي يحمل اسم جلالة الملك يجب أن يكون مطابقا للقانون. وهكذا نلاحظ أن دستور 2011 1 – أسس لأول مرة للطابع الدستوري للقانون. عندما نص على ذلك في الفقرة الأخيرة من الفصل 6 من الدستور التي ورد فيها ما يلي: "تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة. 2 – أوجب أن الأحكام القضائية لكي تحمل اسم جلالة الملك يجب أن تكون مطابقة للقانون. هذه الدعائم الدستورية ستجد ترجمة مخلصة وكاملة لها في الرسالة الملكية الموجهة للمؤتمر الدولي حول استقلال السلطة القضائية. وأعتقد أن مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع قانون المسطرة الجنائية يجب أن تلتحق بالإرادة الملكية الواضحة في جعل ما أتى به دستور 2011 من حقوق للمواطنين واقعا يستفيد منه المتقاضي سواء كان فردا أو جماعة. المدخل الخامس: مدى إخضاع تشريع البرلمان لدستور 2011 نأخذ أمثلة ونبدأ بالقانون المنظم للتنظيم القضائي. حقا يمكن القول إن التنظيم القضائي الذي دخل حيز التنفيذ، أخيرا، استحضر مضمون الفصل السادس من دليل حقوق الإنسان الخاص بالقضاة والمدعين العامين والمحامين، الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالتعاون مع رابطة المحامين الدولية التابعة للأمم المتحدة في 2 يونيو 2003. وعلى الخصوص في فصله السادس. ووضع آلية للحيلولة دون إصدار أحكام مختلفة باختلاف المتقاضين أمام المحكمة نفسها، مع أنهم يوجدون في الوضعية نفسها، وألزم بأن تصدر الأحكام نفسها على كل المتقاضين عندما يكونون في الوضعية نفسها. وبالفعل، فإن قانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، أكد على وجوب تطبيق الحق في المساواة أمام القانون، عندما اعتبر أن التنظيم القضائي في المملكة يتكون من محاكم، وليس من قضاة، كما هو واضح من المادة الأولى منه التي نصت على: يشمل التنظيم القضائي: أولا: محاكم الدرجة الأولى كما نصت المادة 5 من القانون نفسه على المبدأ المركزي والأساسي للتنظيم القضائي بالمغرب وهو وحدة القضاء، غير أن مما أتى به التنظيم القضائي، هو أنه رفع عن مهام القاضي استقلاليته عن المحكمة التي يعمل بها، عندما أخضعه إلى سلطة المسؤول القضائي بها. فالمادة 7 من التنظيم القضائي جعلت مهام القاضي القضائية، أي الأحكام التي يصدرها، تحت سلطة المسؤول القضائي للمحكمة التي يعمل بها. أي تحت سلطة رئيس المحكمة، بل إن تلك السلطة تجاوزت مهامه القضائية الى الدخول في حياته الخاصة عندما رخصت لرئيس المحكمة تحديد برنامج رخصته الإدارية. علما ان تلك الرخصة تتداخل بين ماهو شخصي وما هو وظيفي. وكان من الأحسن السكوت عن هذا التداخل، كما كان الوضع في السابق، وليس تغليب بنص القانون، جانب على آخر. فالمادة 7 المذكورة تطرح اليوم سؤال حول المفهوم الجديد لاستقلال القاضي. خصوصا: 1 - أنها استعملت الصيغة القانونية نفسها، المستعملة في القانون التنظيمي، المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، بخصوص قضاة النيابة العامة. وهي الصيغة المستعملة في المادة 25 منه التي تنص على أن قضاة النيابة العامة يعملون تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين. -2 أن قانون التنظيم القضائي تداولت فيه المحكمة الدستورية بطلب من رئيس الحكومة السابقة مرة أولى. ثم مرة ثانية وبعد ذلك صادقت عليه، بعدما اعتبرت أن بعض مواده مطابقة للدستور. وبعضها ليس فيه ما يخالف الدستور. وكمثال ثان على القانون غير العادل، نورد ما أتت به مدونة الحقوق العينية في المادة 2 منها التي أصبحت تلزم كل من يملك عقارا مثل بيته الذي يسكنه وعائلته بأن ينتقل بانتظام إلى المحافظة، من أجل التحقق هل ما زال العقار في اسمه أم تم التشطيب على اسمه وسجل محله اسم شخص آخر تملك عقاره بعقد مزور، وإلا تم طرده من منزله بعد 4 سنوات. إذ أن الحكومة التي اقترحت تلك المادة. والبرلمان الذي صوت عليها في الفترة ما بين 2011 و2016، بدل أن يحميا حق الملكية، وفقا لما ينص عليه الدستور، قررا حماية من يستعمل التزوير، أي من يخالف القانون. فهذا القانون وإن صدر عن البرلمان، فهو قانون غير عادل، لكن القاضي ملزم بتطبيقه، مما يؤدي إلى المس بشروط المحاكمة العادلة، ليس بسبب حكم القاضي، وإنما بسبب القانون غير العادل، الذي سنته الحكومة وصوت عليه البرلمان آنذاك. *محام بهيأة البيضاء