بصم الأغنية الغيوانية ووجهها نحو النهل من فن "تاكناويت" خلف عينيه الساهمتين، كان يسكن الحال، ومع حركاته الراقصة وهو يتجاوب مع الأنغام والإيقاعات، كان يتبدى عبد الرحمان باكو لجمهوره مثل كائن قادم من عوالم الجذبة وملوكها، خارجا لتوه من غمامة بخور مشبع بعبق العوالم الغرائبية. في هذا الخاص تسافر بكم "الصباح" في جوانب من مسار فنان استطاع بصم الأغنية الغيوانية وتوجيهها نحو النهل من فن "تاكناويت" الذي كان أحد أقطابه، وشكل أحد أعمدتها الراسخة. إعداد: عزيز المجدوب من درب "أهل أكادير"، القابع خلف أسوار المدينة القديمة للصويرة، المثقلة بالأساطير وحكايات "الملوك"، انطلق الفتى عبد الرحمان باكو الذي رأى النور بهذا الحي سنة 1948. وفي لحظات مصيرية من عمر الإنسان يتداخل فيها الجبر والاختيار، حتى إنه يصعب تمييز الحدود الفاصلة بينهما، وجد عبد الرحمان نفسه منجذبا إلى الأجواء الصوفية التي وفرتها الزوايا المنتشرة في أرجاء المدينة، خاصة الزاوية الحمدوشية والدرقاوية والكناوية. لم يكن عبد الرحمان، الطفل الصويري الوحيد الذي تفتح وعيه وسط هذا المحيط الخاضع لملوك الحال والجذبة، إلا أنه كان، بكل تأكيد، الأكثر تفاعلا مع الطقوس الغريبة للزوايا التي كان يتردد عليها بين الفينة والأخرى صحبة خاله الذي كان بدوره مقدما لزاوية صوفية. ينتمي عبد الرحمان إلى عائلة "قيروش" المعروفة لدى الصويريين، إذ كان أحد أجداده تاجرا معروفا بالمدينة وكان يقود قوافل الملح إلى منطقة "تومبوكتو" بمالي ويقايضها بسلع أخرى، كما كان يجلب معه بعض العبيد الذين سيشكلون في ما بعد النواة الأولى لفن كناوة بمدينة الصويرة. ولم يكن الجد "قيروش" يعلم أن لوعة "تاكناويت" ستنتقل إلى أحد أحفاده وهو عبد الرحمان، الذي ستنشأ بينه وبين آلة السنتير علاقة "حب متبادل"، إذ خلبت هذه الآلة لُبّه، ورسخت لديه، منذ الطفولة، قناعات بأنه خلق من أجلها، وأن "السنتير" هو الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن تكون صلة الوصل بينه وبين نفسه، أولا، ثم العالم. والد عبد الرحمان المسمى "با عبد القادر الكبادي" رغم أنه كان مولعا جدا بفن الملحون، لم يتقبل فكرة تعلق ابنه بكناوة، خاصة أنه كان يحثه على الدراسة، لكن عبد الرحمان بعدما تلقى ما تيسر من مبادئ التعليم الأولي بجامع "لالة عزونة" كان له رأي آخر، فلا شيء كان يثنيه عن مواصلة عشقه المعلن لتاكناويت ولآلة السنتير على وجه التحديد. الحداد الذي أشفق على قلب باكو ولكي يكمل القدر نسج فصول حكاية عبد الرحمان مع السنتير بدقة، أكرى والده محلا لشخص يدعى "أحمد الحداد"، هذا الرجل إضافة إلى امتهانه حرفة الحدادة، فإنه كان "مْعلما" كناويا، كثيرا ما كان يملأ أوقات فراغه بالحانوت باحتضان آلة السنتير وتوقيع أعذب الألحان التي اجتذبت الفتى عبد الرحمان بها، سيما بعد أن تبين له أن الحداد يحيي كذلك "الليلات الكناوية" والتي كان يرافقه إليها. انتبه المعلم الحداد بخبرته أن الطفل باكو مفعم بالحال والجذبة، لذا فكثيرا ما سلمه آلة "القراقب" (الصنوج) لمصاحبته وهو يعزف على "السنتير" وكان يوجه إليه بعض الملاحظات والتوجيهات التي استوعبها عبد الرحمان بسهولة لشدة استعداده لتلقي مبادئ فن كناوة. وبعد مدة وجيزة أهدى "المعلم الحداد" سنتيرا قديما إلى عبد الرحمان، وكأنه بذلك "يعمّده" ويمنحه الإشارة لولوج عالم "تاكناويت" من أوسع أبوابه، وفعلا فقد كان المعلم الحداد واعيا بما يفعل، حتى وإن تعارض ذلك مع رغبة أسرة عبد الرحمان خاصة والده، سيما بعد أن أثبت الفتى من خلال اختبارات عديدة خضع لها أنه جدير بحمل لقب "معلم كناوي"، وهو ما زال في طور المراهقة، ولم يكن هناك شيء يحول دون طموحه في أن يتغلغل وسط مجاهل عالم "كناوة" المغلف بالأسرار والطقوس الغريبة رغم المواقف الحرجة التي تعرض لها، إلا أن "الحال ما كايشاورش". نجم الليلات الصويرية بعد وفاة والده بداية الستينات، كان عبد الرحمان قد حسم اختياره في معانقة آلة "السنتير"، واكتسب بعض الحرية في اتخاذ القرارات، منها الانتقال إلى مدن ومناطق أخرى لضبط أنماط أخرى من فن كناوة، خاصة الألوان التي لا تقدم بمسقط رأسه بالصويرة، منها اللون "الغرباوي" الشهير لدى "أهل الصنعة" بثرائه النغمي والمقامي ووضوح عباراته، عكس بقية الأنماط الكناوية الأخرى التي حافظت على طابعها الأصلي المتضمن لمفردات مبهمة وغامضة تتحدر من اللهجات الإفريقية التي انقرض بعضها. كما شرع عبد الرحمان في إحياء "الليلات"، وكثيرا ما أثار دهشة الناس والملمين بأسرار فن كناوة بقدرته على التحكم في آلة السنتير بمهارة قل نظيرها، كما كان يعزف عليها كل الألوان والطبوع و"الملوك" حتى الأكثر تعقيدا منها. ولم يتجاوز عمر باكو سن الثامنة عشرة حتى شكّل فرقة خاصة به مكونة من شباب مدينة الصويرة، ذاع صيتها سريعا، خاصة أنها كانت تحيي "الليلات" في البيوت وكذلك في الهواء الطلق، أي خلال المسامرات الليلية على الشواطئ المجاورة للمدينة، منها شاطئ الديابات الذي أصبح خلال منتصف الستينات مقصدا للسواح الأجانب والهيبيين على وجه التحديد. وكان عبد الرحمان نجما فوق العادة وسط مسامرات الهيبيين، الذين أبدوا شغفهم بالسحر المنبعث من بين أنامله وهي تنتقل بمهارة بين أوتار "السنتير". وخلال الفترة نفسها حل بمدينة الصويرة الباحث الفرنسي "جورج لاباساد" الذي كان بصدد إعداد بحث عن فن كناوة، فتعرف على عبد الرحمان الذي اصطحبه لحضور "الليلات" بالزاوية. ولم يقتصر الأمر على "لاباساد" فقط، بل تعداه إلى اصطحاب أفراد من فرقة "ليفينغ تياتر" التي حلت رفقة رئيسها "جوليان بيك" بالصويرة، هذا الأخير تعرف على باكو والتقاه لأول مرة بمقهى شهيرة بوسط مدينة الصويرة تدعى "كافي هيبي"، ستصير في ما بعد فندق "رياض المدينة". وجرى الاتفاق بين عبد الرحمان قيروش وجوليان بيك على تنظيم "ليلة" كناوية "شاخدة" حضرها أزيد من 25 كناويا، إضافة إلى أعضاء فرقة "ليفينغ تياتر" البالغ عددهم 50 فردا، وكان فيها عبد الرحمان النجم الأبرز بعد أن استأثر باهتمام أعضاء الفرقة الذين تجاوبوا حد "التحيار" مع عزف باكو. وسعى جوليان بيك إلى توظيف "سنتير باكو" في العديد من الأعمال المسرحية لفرقة "ليفينغ تياتر" التي وجدت في أسلوب عبد الرحمان الكناوي ضالتها المنشودة، خاصة أنها فرقة تعتمد بشكل كبير على تكامل البعدين الروحي والجسدي. ومن خلال علاقته ب"ليفينغ تياتر" سيتعرف عبد الرحمان على زوجته الأولى "سوزان" التي كانت عضوا ضمن الفرقة المسرحية، كما كانت إحدى المعجبات ب"تاكناويت" كما يقدمها عبد الرحمان، وهي التي كانت وراء تلقيبه "باكو" عوضا عن "قيروش" وهو لقبه العائلي، بعد أن انتبهت إلى أنه كان يسوي أوتار "السنتير" على لفظتي "با" و"كو". ومن خلال هذه الفرقة تعرف باكو على النجم العالمي دجيمي هندريكس الذي زار الصويرة، نهاية الستينات، ليلتقي بعض أصدقائه بالفرقة، وجمعتهما مسامرات فنية كناوية، جعلت هندريكس يلقب باكو بـ "طبيب الأشباح"، بعد أن لاحظ قدرة باكو ومهاراته في التحكم في نفسية المستمعين من خلال عزفه على السنتير، إذ حضر النجم العالمي "ليلة" كناوية بطقوسها وعُدّتها تمكن فيها الفنان الصويري من إنقاذ شخص انغمس في طقوس الحال والجذبة حتى أصيب بنوبة صرع لم تخلصه منها إلا نغمات سنتير باكو الذي احتوى الوضع بحنكة معلم كناوي مجرّب. وسيرتبط عبد الرحمان بـ"سوزان" وسيرحل معها إلى انجلترا حيث سيقدم رفقة "ليفينغ تياتر" بعض العروض لفترة لم تتعد بضعة أشهر، قبل أن يعاوده الحنين إلى الصويرة و"ملوكها" ولياليها الغارقة في "الحال"، فقرر العودة رفقة "سوزان". "غير خودوني" يا ناس الغيوان خلال مطلع السبعينات ستظهر إلى الوجود مجموعتا "ناس الغيوان" ثم "جيل جيلالة". الأسلوب الذي جاءت به المجموعتان استهوى عبد الرحمان وتمنى لو أتيحت له الفرصة للانخراط في واحدة من هاتين المجموعتين. وهو ما تم فعلا، إذ التحق باكو بمجموعة جيل جيلالة، لمدة قصيرة وسجل معها أول أعمالها مثل "لكلام لمرصع" و"العار أبويا" قبل أن ينفصل عنها لأسباب فنية محضة. ظهور باكو الخاطف مع "جيل جيلالة" لم يكن ليمر دون أن يثير انتباه شخص متيقظ مثل المرحوم "بوجميع" الذي عمل على استقطاب عبد الرحمان بعد انفصاله عن جيل جيلالة، وعوض به مكان الفنان عبد العزيز الطاهري الذي انتقل بدوره إليها. وبعد التحاق عبد الرحمان باكو بناس الغيوان، شعر بنفسه مثل السمكة التي عثرت على "بحرها"، إذ سرعان ما اندمج في فلسفة المجموعة وأغنى مسار تجربتها بلمسته الكناوية كما يبدو ذلك جليا من خلال انطباع جل أعمالها بهذا اللون الموسيقي. كان العمل الأول الذي قدمه مع مجموعة "ناس الغيوان" هي رائعة "غير خودوني"، لكن فرحة الانضمام إلى المجموعة لم تتم إذ سرعان ما اختطف الموت "دينامو الغيوان" المرحوم بوجميع وسنه لم يتجاوز الثلاثين، الأمر الذي كاد يعصف بمستقبل المجموعة الفني، التي تبين أنها كسبت وجها جديدا سرعان ما سيبرهن على أنه قادر على ضمان تماسكها إلى جانب باقي أفرادها الآخرين. وعلى مدار أزيد من 25 سنة ساهم عبد الرحمان باكو في رسم معالم التجربة الفنية لمجموعة ناس الغيوان بحضوره "الكناوي" الذي أضاف بعدا آخر إلى التجربة وفتح أمامها أفقا جديدا لم يفتحه شخص آخر سواه.