عبادة وسعي للإحسان وظواهر مشينة وسهرات بقاعات أفراح ومقاه وفية لرائحة "الشيشة" تمتزج العبادة و»النشاط» في ليالي رمضان بفاس. ويتناغم المرح والإحسان، عازفا سمفونية تتكرر كلما حل الشهر الكريم. تعج المساجد بمئات المصلين، ويكثر الدعاء وطلب الأجر والثواب، وتكاد فضاءات أخرى تختنق بمن فيها من الباحثين عن فرصة انعتاق من عطش وجوع روحي، على إيقاع «الشيشة» وأنغام «رقصني يا جدع». تلخص المشاهد اليومية تناقضات وطرائف وتدافعا بين الرغبة في الترويح عن النفس والتنفيس عنها، وعبادة مغلفة بجلباب التقوى والورع. قرب المساجد وبكل المواقع، يكثر قبل الفطور وبعده وبعد التراويح، متسولون وحراس «باركينغات» عشوائية تؤثثها سيارات إدارات معتكفة ليلا، وباعة متسولون لمدخول جيوب محسنين كرماء. لا موطئ تدس فيه إبرة قرب مسجد «التجموعتي» ليلة الأربعاء الماضي. سيارات مركونة بشارعي «فلسطين» و»للا مريم». بعضها حامل «ج» و»المغرب» بلون الدم والخجل من سلوك لم يستأصل، وأخرى بزوايا معرقلة للسير. عربات حابل بما تشتهيه البطون إضافة إلى سبحات و»سجادات» ورائحة المسك تشم من بعيد. رجال ونساء مرابطات لم يخفهن الليل. مهما تختلف النوايا، فالكل يبحث عن «بقشيش» منتظرين لحظة يلفظ فيها الجامع من به عبر دفعات برغبة كل مصل في استكمال عدد ركعات التراويح أو الاكتفاء بما قل ونفع. اللباس التقليدي سمة مشتركة إلا في حالات نادرة، والعيون تتلصص يدا تدس في جيب ينعم على الناظرين بصدقة تجري مجرى الدم في شرايين الحسنات. أغلب الوجوه المتسولة مألوفة في ليل رمضان وقبله. وجوه قطعت مع الهواية وتحترف ظاهرة مدرة لدخل مهم. الجميع يستغل الفرصة وليونة الأفئدة في هذا الشهر يزداد عطف من بجيوبهم مال على فقراء وحتى متظاهرين بالفقر والعاهات. ثقافة التسول متجذرة و»حرفة» مداخيل ممتهنيها أكبر من موظفي السلم العاشر في الوظيفة. «صدق ودير الخير تلقاه عند الله» ينصح مصل مرافقه. ويطنب في الحديث عن أجر الصدقة والإحسان بالناس. الخير يزداد في شهر رمضان ليس فقط أمام أبواب المساجد، بل بمبادرات من فعاليات وجمعيات، أعمال خيرية أطلقها بعضها لتوزيع القفف وإطعام الفقراء والإنعام عليهم بملابس ولو بالية، وكأن الفقر لا يرى إلا في رمضان. تلك بعض من صور التدين والعبادة والخير والإحسان في ليل فاس. تقل تدريجيا بالابتعاد عن المسجد وغيره من المساجد، حيث القلوب ربما «أقصح» بشوارع قتلها التسول والتشرد وباعة يحتلون كل رصيف يؤمن مرور الناس. وبالتوغل بعيدا يلوح معرض الصناعة التقليدية بساحة «فلورانسا»، فيما تخفي الأزقة ما لا يرى بعين المسؤول. مقاه ومحلات الشيشة بفضاءات مختلفة بالمدينة لم تفرط في عادات ووسائل كسب ولو لم تكن مشروعة. هناك يختفي متلذذون برشفات منها وباحثون عن لحظات دفء وحميمية على أنغام موسيقى شبابية لم تعد تسمع بنفس الحدة كما في باقي الشهور، وحيث شباب لا قدرة له على ولوج أماكن مفتوحة على سهرات ليلية مكلفة. جل محلات الشيشة لم تنظم سهرات فنية في ليالي رمضان، عكس مقاه راقية وقاعات للأفراح استضافت بشكل شبه يومي فنانين ومنشطين واستثمرت وسائل التواصل الاجتماعي للدعاية إليها واستقطاب أكبر عدد ممكن من الزبناء ورفع مداخيلها المتقلصة. ومنها من نظمت مسابقات وفاجأت أطفال مرتادي فضاءات ألعاب، بهدايا. المغني محمد العسري وفرقة عيساوية وأوركسترا المايسترو، هم منشطو آخر حفل مبرمج في ليالي رمضان بقاعة أفراد، بعدما استضافت جوق عادل عثماني وهاجر طاهري وعادل حاجي وأحمد سليم وعشاق عيساوة وآخرين في أجواء عائلية وحفلات تنطلق ما بعد صلاة التراويح، وبتذكرة دخول بسعر ليس في متناول الجميع. حتى الفنادق انخرطت في إقامة ليال ساهرة، إحداها نظمت لقاءات مع جوق الآلة الأندلسية، كما مقر مركز للنداء سار في الاتجاه نفسه لمناسبة تنظيم أبوابه المفتوحة، استضاف فيها في «ولاعات أندلسية راقية» نجوم هذا الفن التراثي وأبرز أجواقه، فيما تم فتح قاعة سينما أبوابه لجمهور فنانين كوميديين، منهم إيكو وأمين الراضي. حميد الأبيض (فاس)