استطلاعات الرأي توضح استمرار الانقسام وسط الناخبين الأمريكيين بشأن الرئيس السابق بقلم: عادل بنحمزة(*) تخوض الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية وجزء واسع من الديمقراطيين منذ فترة، حرب "إبادة" ضد ترامب والترامبية بصفة عامة، فرغم أن الاقتصاد الأمريكي يؤدي أداء جيدا، على عكس ما يعرفه العالم من انكماش اقتصادي، ذلك أن الاقتصاد الأمريكي انتعش نهاية 2021 ليحقق أفضل نمو للعام بأكمله بـ5.7 في المائة، منذ 1984، كما أن أرقام البطالة نزلت إلى أقل مستوياتها التاريخية قبل الجائحة، إذ بلغت 3.6 في المائة، وما واكب ذلك من ارتفاع في الأجور بفعل ندرة المستخدمين وتراجع طلبات تعويضات البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ 1969، غير أن ارتفاع الأجور بالإضافة إلى عوامل أخرى، ساهم في رفع مستويات التضخم في سابقة منذ أربعة عقود. ورغم أن الإدارة الأمريكية قررت رفع نسبة الفائدة للحد من التضخم، فإن الجمهوريين يركزون على نسبة التضخم غير المسبوقة، لكن يبدو أن جهود الإدارة الأمريكية على مستوى الأداء الاقتصادي لا توفر كثيرا من اليقين لدى "الإستبليشمنت" والديمقراطيين بصفة عامة، لأنه لا يبدد مخاوفهم من خسارة التجديد النصفي للكونغرس بعد شهرين، خاصة أن استطلاعات الرأي توضح استمرار الانقسام وسط الناخبين الأمريكيين مع استمرار هيمنة الرئيس السابق دونالد ترامب على الحزب الجمهوري. صورة سوداء قبل أزيد من أسبوعين، اختار الرئيس جو بايدن، توجيه خطاب استثنائي وقوي وسط فيلادلفيا، غير بعيد من قاعة الاستقلال التاريخية الوطنية، المكان الذي اجتمع فيه الآباء المؤسسون للديمقراطية الأمريكية لكتابة الدستور الأمريكي. رمزية المكان سرعان ما ستظهر في مضمون خطاب بايدن، الذي رسم صورة سوداء عن الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية وأنها تواجه مخاطر جدية. بايدن سعى إلى دفع الأمريكيين للتفكير في التهديدات التي تهم عيشهم المشترك بدل التفكير المحدود في انتخابات تجديد نصف عدد أعضاء الكونغرس، إذ يتمتع الديمقراطيون بأغلبية طفيفة. هاجم بايدن ترامب بصورة مباشرة قائلا: "الكثير مما يحدث في بلدنا اليوم ليس طبيعيا، فالحزب الجمهوري يهيمن عليه ترامب ومؤيدوه". مضيفا: "إنهم يرفضون قبول نتائج انتخابات حرة. ويعملون الآن في ولاية تلو الأخرى لإعطاء سلطة تقرير الانتخابات لأنصارهم وللمقربين منهم، وتمكين رافضي الانتخابات من تقويض الديموقراطية نفسها". خطابات متطرفة قناعة جو بايدن تسندها نتائج استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينيبياك ونشر الأسبوع الماضي، أظهر أن 69 في المائة من الجمهوريين، ومثلها من الديمقراطيين، قالوا إنهم يعتقدون أن "ديمقراطية البلاد تتعرض لخطر الانهيار"، كما أظهرت استطلاعات أخرى تراجع الثقة بين الجمهوريين في النظام الانتخابي، إذ ردد الكثيرون منهم رواية ترامب بأن انتخابات 2020 كانت مزورة وأن النتائج قد سرقت من الجمهوريين. في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل نموذجا للعالم الحر، خاصة بعد الأربعاء الأسود الذي عرف اقتحام مقر الكونغرس الأمريكي، بدا أن هناك شكلا من أشكال التحالف أو التوظيف المتبادل بين تيار شعبوي صاعد على يمين الحزب الجمهوري، الذي يمثل دونالد ترامب علامته البارزة، وبين تيارات يمينية متطرفة لها جذور طويلة في المجتمع الأمريكي منذ حركة الحقوق المدنية بين 1954 و1968، إذ أن أبرز حركات اليمين المتطرف التي تحالفت مع ترامب، ليست في النهاية سوى امتداد للحركات المتطرفة التي ناهضت حقوق الأمريكيين من أصول إفريقية والملونين، ودافعت عن ذلك بسرديات عنصرية تعتقد بتفوق الجنس الأبيض، وهي السرديات ذاتها التي يعاد إنتاجها اليوم داخل أمريكا وخارجها. الظهور الجديد لهذه الحركات يأتي في أعقاب الزلزال الذي خلفته الأزمة الاقتصادية والمالية في 2008، وفي ظل عجز منظومة الحكم في الولايات المتحدة على صيانة "الحلم الأمريكي" بعد أن سيطرت الرأسمالية المتوحشة وتصاعدت الفوارق في المجتمع، ما جعل ملايين الأمريكيين على هامش الدورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت الخطابات اليمينية العنصرية والدينية المتطرفة، ملاذا لكثيرين لم يكن ينقصهم سوى شخصيات/أيقونات للبروز إلى الواجهة والتعبير عن رفض مؤسسة الحكم "الإستبلشمنت" والأوليغارشية السياسية والاقتصادية الحاكمة في واشنطن، وقد أفرز ذلك مزيجا من الساخطين/الضحايا يضم السود واللاتينيين والمهاجرين بصفة عامة. تيارات شعبوية إن ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية مع ظاهرة ترامب، أوقع كثيرين في الالتباس، خاصة من جهة المهتمين بصعود التيارات الشعبوية في العالم وخطر ذلك على الديموقراطية التمثيلية. ما يجب الانتباه إليه، هو أن ما يحدث أمامنا منذ سنوات، هو تحالف بين طرفين يجب التمييز بينهما، فمن جهة نجد الشعبوية ممثلة في ترامب، ومن جهة أخرى نجد الجماعات اليمينية. تقوم ضرورة هذا التمييز عندما نعلم أن الشعبوية في الجوهر هي نمط من السياسات الأخلاقية، إذ أن التمييز بين النخبة والشعب هو أولا وأخيرا أخلاقي (أي النقاء مقابل الفساد)، فالشعبوية تنطوي على نظرة مانوية للعالم تقسم الفضاء الاجتماعي إلى معسكرين متعارضين: "الشعب" الأخلاقي، ومؤسسة الحكم الفاسدة، كما تقول ناديا أوربيناتي، إذ لا يقوم التمييز على جانب ظرفي يرتبط بالموقف من السلطة، أو اجتماعي ثقافي يقوم على الفوارق الإثنية أو الدينية، أو اجتماعي اقتصادي يقوم على الفوارق الطبقية، فالهدف النهائي للشعبويين واليمين المتطرف مختلف ومتمايز، وأي خلط أو الاعتقاد بوجود نوع من التطابق الكامل بينهما، إنما يساهم في تضليل التحليل الذي يسعى إلى فهم ما يجري على الساحة الأمريكية منذ سنوات، وهو ما يمكن إسقاطه أيضا على تجارب أخرى، خاصة في القارة الأوربية. بالتأكيد ليست أمريكا فقط هي التي تواجه تراجع الديمقراطية وتصاعد العداء لها بشعارات ومبررات مختلفة، ولكن ذلك يمثل موجة عالمية متصاعدة منذ انهيار جدار برلين، كما أن ترامب ليس سببا في ما تعرفه أمريكا منذ سنوات، بل هو نتيجة لمسار طويل من التراجعات التي كانت موضوع كتابات وازنة منها كتاب ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبالت "كيف تموت الديمقراطيات" الذي أكدا فيه أن التاريخ أثبت في معظم الحالات "أن الديموقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد"، إذ أنها "تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها"، وأن أرض الديموقراطية الخصبة تخضع للتجريف لمدة طويلة. تراجع الديمقراطية في السياق ذاته، يجدر بنا التذكير أن مجلة الديمقراطية التي تأسست في 1990، اختارت مسألة تراجع الديمقراطية موضوع عدد خاص أصدرته لمناسبة مرور ربع قرن على إنشائها، ثم نشرته في 2015 على شكل كتاب جماعي تناول مجموعة من القضايا التي تهم واقع ومستقبل الديمقراطية في العالم والولايات المتحدة الأمريكية بين متفائل بمساراتها المستقبلية وبين متشائم بتلك المسارات. الأحداث الجارية اليوم توضح حجم التفاؤل والتشاؤم، معززا بآخر التقارير الدولية حول الديمقراطية في العالم، والتي تخلص إلى حقيقة تراجع قيمها، في مقابل بروز بعض مظاهرها مثل الانتخابات. فرغم أن الانتخابات أصبحت هي القاعدة وليس الاستثناء، فإن الكثير من الأنظمة غير ديموقراطية، كما أكدت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في تقرير سابق لها حول الحالة العالمية للديمقراطية، تستعمل الانتخابات فقط كوسيلة لإضفاء الشرعية الداخلية والخارجية، أما في البلدان التي تحكمها أنظمة هجينة أو غير ديمقراطية، حسب ذات المؤسسة، فإن دور الانتخابات يقتصر على تعزيز الواجهة الديموقراطية. هذا التشويه للمبادئ الانتخابية لأغراض غير ديموقراطية، يساهم في تقويض ثقة الجمهور بقيمة العملية الانتخابية في البلدان الديمقراطية كما يخلص التقرير. فهل يمكن توقع خفض التخوفات الجدية من انحدار الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلالها باقي دول العالم؟ أم أن القرن الحالي هو في الطريق للقطيعة معها أمام فراغ مهول يتعلق بالبديل الممكن؟ (*) كاتب وأستاذ جامعي