عوض مناقشة أفكار الكبار غرق المغرب في تهافت صغار الصغار وانتفاخهم أصبحت أعين الفكر وواحات الإبداع بالمغرب في مواجهة مباشرة مع متاهات التفاهة وأشواكها الحديدية ومع الغياهب المحبطة للامبالاة. الوضع أضحى لا يهدد الفكر والإبداع فقط، وإنما يستهدف المساهمة الحضارية للمغربيات والمغاربة إلى ما يستهدف وجودهم ككل. ظاهرة عالمية من المؤكد أن طغيان التفاهة أصبح ظاهرة عالمية لدرجة أن الفيلسوف الكندي آلان دونو خصص لها كتابا بالغ الأهمية تحت عنوان "نظام التفاهة". إلا أن التعامل مع الظاهرة مغربيا ينبغي أن يكون بالنسبية الضرورية، إذ في البلدان الصناعية والتكنولوجية، وهي تعيش انتشار بعض التفاهة، هناك بنيات ومؤسسات للبحث العلمي وآليات لتطوير الفكر والتفكير ومنشآت لتجديد الإبداع وديناميات لازدهار وسائل التعبير. أما عندنا، و في المنطقتين العربية والإفريقية ككل، فالوضع من الخطورة بمكان وزمان. لأن أولوية الثقافة والفنون والتربية والتعليم والفكر والبحث باعتبارها روافع للتقدم والنمو لم تترسخ بعد، ولم ننتقل إلى مستوى يحمينا من عواصف التتفيه، وموجات الاستهلاكوية أو الاستهلاك من أجل الاستهلاك، ومن اتجاه الانحدار بالإنسانية وقيمها... فيما أضحت التنميطات السلبية للمجتمعات جزءا من الحروب الدائرة في العالم، والتي لم تعد العديد منها تخاض بأدوات عسكرية. في الوقت الذي استقال أو ابتعد أو انزوى الكثير ممن كانوا في عتبات التفكير، دون الحديث عمن باعوا أرواحهم و كلماتهم الأولى بالرخيص ورهنوا القيم التي خانوا بما دهنوا أو ما دهن لهم، يوجد بعض الفكر الصامد و الصمود الفكري في فوهة مواجهة التفاهة من أجل مبادئ لم تبدل تبديلا. مبدعون وباحثون ومفكرون شكلوا ويشكلون جزءا من حضارتنا التي تحولت هي بنفسها إلى جزء من الحضارة الإنسانية، تعرض الكثير منهم بالأمس للقتل المعنوي والمحو الثقافي، وعوض أن نكثر من مبادرات إحياء ما يمكن إحياؤه من تراثهم، تضيف لهم الدولة والمجتمع في المغرب اليوم ضحايا جدد من الأحياء ذوي العطاء المستمر والإبداع المتقد بطرق الخنق والحصار والتهميش والعزل... ومن ثمة أمست المبادرات النادرة التي تقاوم ثقافة القتل والمحو عملا وطنيا ومواطنا يستحق أكثر من التقدير... "آخر جدران الحياء" حمودي في معرض الكتاب الأخير، لم يكن كافيا أن يأتي بضع عشرات للاطلاع في ركن من حيز رواق صغيرعلى الكتاب الجديد للمفكر عبد الله حمودي "ماقبل الحداثة ـ اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية"، وللحصول على توقيع الكاتب الذي لن أبالغ إن أسميته "مؤسس الأنتربولوجيا في المغرب"، بينما تحتاج الساحة الثقافية والجامعية لحضور المئات لتتبع ذاك الجديد، بل كل الثقافة والفكر في المغرب يحتاج ذلك. فالأمر يتعلق بمفكر وبقامة علمية نادرة. والحال أن من يستحق في المغرب صفة مفكر قليلون وقليلات. إذ يعد المفكرون المغاربة خلال هذا العصر، حتى بإحصاء من رحلوا عن الحياة، على رؤوس أصابع اليدين، وهناك من يعدهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة... والبروفيسور عبد الله حمودي ليس مجرد كاتب أومؤلف، بل هو حامل مشروع فكري وعلمي قوامه عقود من البحث الجدي والدراسة المتأنية والمتخصصة. حينما حضر البروفيسور حمودي إلى معرض الكتاب، كان يقاوم الآلام التي ألمت به نتيجة حالة مرضية. إنما التزامه، حتى مع من لا يلتزم، جعله يتحمل ذلك في صمت وصبر... وبما أنه يعرف "خروب بلادنا" جيدا وحالة الثقافة الملتبسة والمتلبسة بتخليات السياسة واختلالاتها، فهو لم يعر كثير اهتمام ولا حتى قليله لشروط تقديم كتابه الجديد وتوقيعه. وعندما لا يقوم الآخرون بواجباتهم لا يتخذ من ذلك مبررا للتخلي عن "واجباته". إذ كثيرا ما اعتبر التواصل مع الجمهور، وضمنهم الباحثون، ومناقشتهم أفكاره وأفكارهم واجبا علميا، وذلك نابع لديه من تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة كما يقول غرامشي ... خارج المعرض وعبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل، كان هناك اهتمام بالكتاب الجديد للمفكر حمودي، إنما في مستوى يؤكد أن التفاهة طغت والضحالة انتشرت... حتى بالمقارنة مع الاستقبال المتميز الذي حظيت به مؤلفاته السابقة. فعوض تقديم الكتب وقراءتها ومناقشة أفكار الكبار، غرق المغرب في تهافت صغار الصغار وانتفاخهم الذي بانت له حتى في السماء علامات... وبلغنا إلى سقوط "آخر جدران الحياء" كما قال نزار قباني. مقاومة التفاهة أورد موقع "هسبريس"، تقريرا حول تخصيص شعبة مستقلة لتدريس الأنثربولوجيا في سلك الإجازة، من المرتقب أن تنطلق مع الدخول الجامعي الجديد بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، لأول مرة في تاريخ الجامعة المغربية. وبقدر ما يبرز هذا الخبر أن الصمود في مقاومة التفاهة يؤتي لا محالة أكله، بقدر ما انضافت لدي إلى مرارة ما وقع بمعرض الكتاب وما بعده مرارة عدم الإشارة للأنتربولوجي عبد الله حمودي في بلاغ جامعة بن طفيل ولو تلميحا إلى عمله التأسيسي في هذا المجال. للأنتربولوجيا والإثنوغرافيا تاريخ طويل مرتبط بالاستعمار في المنطقة المغاربية والعربية. وسبق للبروفيسور حمودي أن وقف عند ذلك، حيث مارسها متخصصون و إداريون وباحثون أجانب بالفرنسية والانجليزية وبلغات أخرى، وتزخر الخزانة بالمعارف الناجمة عنها، عبر مجلدات ودوريات يصعب الإحاطة بها كلها. إنما يعتبر المفكر حمودي مؤسسا للأنتربوبولوجيا في المغرب والمنطقة، لأنه اشتغل طويلا وحصل على الأهم في منجز هذا العلم والمعرفة وركائزهما الفلسفية. إذ أنجز مشروعا قابلا للتطوير، بعد أن وضع أسسا جديدة للأنتروبولوجيا باللغة العربية كمادة بل مواد لا يمكن لأي باحث جاد في المجال أن يتجاهلها لأنها تتضمن الأسس النظرية والمنهجية الجديدة لبناء الأنتربولوجيا المغاربية باللغة العربية في أفق علوم اجتماعية متجددة. وقراءة المنتوج العلمي لحمودي تبرز أن مشروعه يتعدى الأنتربولوجيا إلى التفكير في الأسس الإبستمولوجية والمعرفية بصفة عامة، بفضل جهده البارز في فلسفة المعرفة. إذ وضع للمجال المعرفي الذي يشتغل عليه أسسا إبستيمية ومنهجية ونظرية، بحيث أن جديده هو بلورته للبنات دقيقة لممارسة التنظير للإثنوغرافيا والأنتروبولوجيا. ولا تسكن كتاباته قصرا من عاج بل اعتبر دائما أنه لا بد للمعرفة في هذه الميادين من الخوض في الفكر العام. وتؤكد ذلك مساهمته دون دعاية ولا ادعاء في الثقافة والسياسة ومواقفه فيما يخص انشغالات مجتمعات المنطقة دون التنازل عن صرامته المنهجية التي تتحاشى الخلط بين الأشياء ... مما يثري المخيال الجماعي. وهو ما لا يتم الانتباه له إلا قليلا أو بالأحرى نادرا ... في الحاجة لإدراك المشروع لا يمكنني أن أحيط بكل ما أصدره البروفسيور حمودي، إنما أذكر أن مؤلفاته ذائعة الصيت لا يمكن لأي متتبع حصيف أن يتنكر لطابعها التأسيسي. فكتابه "الضحية وأقنعتها بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب"، بصمة متميزة في الدراسة الأنتروبولوجية مما جعله مصدرا لا محيد عنه لفهم عدة جوانب ثقافية ورمزية وسياسية ودينية في المنطقة. أما مؤلفه "الشيخ و المريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة " فقد بلغ طبعته الخامسة. وهو مشهور بمرجعيته والأطروحة التي يقدمها، سيما في عوامل بناء السلطوية بمنطقتنا وتفاعلا مع الاهتمام الذي أثاره فقد تلاه ب"مقالة في النقد والتأويل"... وترجم كتاب "حكاية حج، موسم في مكة" لأزيد من 12 لغة ليس لجديته وأصالته فقط، وإنما لأنه تجديد في البحث واجتهادا في المنهجية والربط بين النظرية والتجربة الميدانية مما أفرز نظرية "المسافة والتحليل" التي طورها في مؤلف آخر. دون أن ننسى انكبابه على "الرهان الثقافي" وتحدي القطائع المطلوبة عن طريق البحث وتأطير العناصر الثقافية بسياقاتها السياسية والاقتصادية. وسبق أن أشرت إلى أن آخر ما صدر له مرتبط بالاجتهاد لبناء تصور متجدد للعلوم الاجتماعية في المنطقة المغاربية والعربية وإثارة النقاش حول هاته القضية التي حظيت بالعديد من أبحاثه والتي جادلها مع الحداثة وما قبلها. ويشكل كتابه "الحداثة والهوية،سياسة الخطاب والحكم المعرفي حول الدين واللغة" امتدادا لانشغالات مشروع المفكر حمودي، ربما لم يحظ بعد بما يليق به من نقاش . وتحتاج الإحاطة بمختلف مقومات مشروع الأستاذ والمفكر عبد الله حمودي لفريق متكامل من الباحثين لإدراكه و سبر أغوار كتبه و عديد من دراساته ومقالاته وحواراته .وبالعودة لإحداث شعبة وإجازة للأنتربولوجيا بالقنيطرة، تتوقع أنها ستدخل السرور على البروفيسور حمودي حامل المشروع الذي أشرت لبعض معالمه فقط. محمد العوني