أكبر إساءة إلى القضاء، وإلى المتقاضين والمؤسسات والوطن، أن يستمر قاض في مكانه أكثر من 20 سنة، حتى يصبح "فرعونا" صغيرا يحكم ويتحكم ويحتكم إلى قوانينه ونزواته ومزاجه وعقده النفسية. وأكبر تغيير يمكن أن يعرفه المغرب في الأشهر المقبلة، أن يصبح جميع موظفي الدولة سواسية أمام مساطر الانتقال والانتداب والتمديد والترقية والتعيين، دون استثناء، أو تمييز. فليس من العدل، أن نحمي بعض موظفي الدولة بأسلاك شائكة من القوانين، بينما يخضع آخرون إلى القانون الطبيعي، الذي لا يسمح باستمرار مسؤول في المكان نفسه خمس سنوات على أبعد تقدير. فكما يخضع رجال الدرك الملكي وموظفو الإدارة الأمنية وجمركيون وأطباء عموميون وأساتذة ومهندسون إلى قانون "تبدال المنازل"، فينبغي كذلك أن يكون القضاة قدوة، ويسعوا من تلقاء أنفسهم إلى طلب الانتقال، لا الاختباء وراء فصل من الدستور (108)، لشرعنة الطغيان، وتشييد "ممالك" صغيرة وسط المحاكم، كما لاحظنا جميعا من خلال ملفات متابعة قاضي بني ملال وقضاة بالبيضاء. وحين نتحدث عن القضاة، فليس في الأمر أي تعميم، إذ يعرف النزهاء والبررة أنفسهم ومكانتهم ونظافة أياديهم، وهم أول من يدافعون عن تغيير الفصل 108 من الدستور، الذي لا يسمح بعزل القضاة ونقلهم إلا بمقتضى القانون، تماما كما يعرف "الآخرون" أنفسهم جيدا، وهم الذين يسيئون بأفعالهم وسلوكاتهم الشاذة ونزواتهم إلى الجسم القضائي، ويشوهون صورته أمام المواطنين والأجانب والمؤسسات. إن "التعمير" في المحكمة نفسها، بل في "المكتب" نفسه، ينزع عن المسؤول القضائي صفات الإنسان العادي الذي يخطئ ويصيب، ويضعه في خانة "الملائكة" التي لا يأتيها الباطل بين أيديها ومن خلفها، ويندمج في حالة نفسية وسلوكية، يعتقد معها أنه فوق الجميع، ويستطيع أن يفعل ما يشاء وفي أي وقت يشاء، مادام يملك سلطة الحل والعقد في الملفات المسنودة إليه. وما اقترفه بعض القضاة بالبيضاء من أفعال يندى لها الجبين، (موضوع متابعات وتحقيق إلى حد الآن)، لا يترجم فقط باعتبارها نزوات طارئة، بل سلوك مكتسب يستمد جبروته من "المكان" الذي استمر فيه عدة سنوات دون انقطاع حتى أصبح جزءا من خارطته الجينية، ثم الهالة التي تحيط به ويحيط بها نفسه، وهو ينتشي بإعطاء الأوامر، وإصدار القرارات والتحكم في عباد الله ومصائرهم. باختصار، إن استمرار المسؤول في المكان نفسه، أنجع الوصفات لصنع كائنات ديكتاتورية تعتبر نفسها ظل الله فوق أرضه، وتبيح لنفسها اقتراف أي شيء لأنها تعرف، مسبقا، أن لا أحد يستطيع زعزعتها من مكانها إلا بمقتضى القانون. فليسقط هذا القانون إذن، ولتسقط معه كل المبررات التي ترفع بعض القضاة إلى مكانة فوق البشر، مع أنهم مكلفون بأداء مهمة يتقاضون عنها راتبا، كجميع المهن الأخرى، ومفروض أن يخضعوا إلى المحاسبة والمراقبة والتقييم بآليات ناجعة، أهمها الانتقال إلى مكان آخر، حسب مقتضى المصلحة القضائية. إن سن مقتضيات قانونية لإعادة الانتشار، وفرض سنوات محددة للبقاء في المكان نفسه، أصبحا مطلبا وطنيا، حماية للقضاة أنفسهم من نفوسهم الأمارة بالسوء، وصونا لهيبة مؤسسة يعز علينا أن نراها، اليوم، في هذا الحال. بكل عبارات الأسف.