حكماء البذلة السوداء يدركون الرسائل المشفرة وحرب الإصلاح ليست مفروشة بالورود أعادت الواقعة الأخيرة المتعلقة بمكالمة مسربة جمعت بين قضاة، الاستفهامات نفسها التي طرحت عند انطلاق مشاورات الحوار الوطني لإصلاح العدالة، إذ كان هاجس التخليق والرقي والاستقلال عناوين عريضة، ترجمت في نصوص سريعة، ما لبثت أن ظهرت عيوبها الواحدة تلو الأخرى في ظرف لم يتعد خمس سنوات. إن أي إصلاح في أي مجال يعني أن هناك طرفين، حرس قديم يريد الحفاظ على ما يعتبره مكتسبات، وجيل جديد يتوق إلى الانعتاق والحرية والديمقراطية، وهما طرفان نقيضان، يدخلان في حرب غير مرئية، فتبدو جيوب مقاومة الإصلاح أشرس، لأن إدراكه يعني المساس بمراكز البعض وسلطتهم، التي يرون أنها مهددة. تسريب المكالمة يطرح استفهامات كثيرة، إذ أنه إذا كان المراد منها التبليغ عن خرق أو اختراق، كان أحرى أن تظل في السرية، وتبلغ إلى المسؤولين لاتخاذ ما يرونه مناسبا قانونا، لا أن تتجول بين الهواتف إلى أن تصل إلى العموم، لتصيب من تصيب، وتكاد تشعل الفتنة بين القضاة والمحامين، الطرفين الأساسيين في منظومة القضاء، إذ بدونهما لا تستقيم عدالة، ولا تفعل نصوصها. فالتساؤل المطروح بشدة هو: من له المصلحة في إشعال الفتنة بين القضاة والمحامين؟ ولأي أغراض؟ حكماء المحامين، لم يقفوا متفرجين، وأدركوا الرسائل المشفرة المقروءة وراء التسريب، ليبادروا في زمن عطلة العيد، إلى إصدار بلاغات رسمية، تحمل صفتهم، وتعلن عما قاموا به من اتصالات مع ممثلي السلطة القضائية والتجاوب الذي لقوه، وعن وصف مضامين الإساءة المضمنة في المكالمة اللغز، سلوكا فرديا لا يعني إلا من صدر عنه، وأن علاقة القضاة بالمحامين متينة، بتعبير أنهم أسرة واحدة. مسؤولو السلطة القضائية بدورهم بادروا إلى اتخاذ المتعين في مثل هذا الموقف، وسارع كل من الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، المعروف بصرامته «الفالطة بالكبوط»، إلى إعمال المساطر الخاصة بالبحث والتفتيش، فيما رئاسة النيابة العامة، أمرت بإجراء أبحاث، وفق ما أعلن عنه الوكيل العام للملك، والتي عهد بها إلى الفرقة الوطنية للكشف عن ملابسات تدبير الملف القضائي المعني في التسجيل الصوتي، بالاستماع إلى أطراف القضية الرائجة أمام الغرفة القضائية المعنية. إلى هنا تبدو المؤسسات المعنية بالعدالة، أنها سارعت إلى القيام بدورها، في انتظار نتائج الأبحاث لترتيب الآثار القانونية بكل صرامة وحزم. ما يعني أنه ليس هناك أي تقصير من قبل القائمين على السلطة القضائية، وزملائهم الساهرين على مهنة المحاماة. ليست هذه أول مرة يطرح فيها ملف من هذا القبيل للنقاش المقرون بالإجراءات البحثية، بل سبقته حالات تمت في سرية، وانطلاقا من رقم هاتفي مباشر تملكه رئاسة النيابة العامة، سواء في عهد محمد عبد النباوي أو بعد تعيين مولاي الحسن الداكي، ولم يسمع يوما، منذ انطلاق التجربة، عن غض الطرف أو التقصير في ما ينتجه ذلك الرقم من قضايا فساد، بل كانت الصرامة والحزم العنوانين البارزين، رغم أن المبلغين متقاضون عاديون انتفضوا ضد الفساد، فوجدوا من يشد بأيديهم. الخلل باق، والحالات ستتجدد، ما لم يقض على المشكل من دابره، فبعد خمس سنوات من التجربة، حان الوقت لتعديل القوانين المفصلة على المقاس والموروثة عن حقبة لها ما لها وعليها ما عليها. نحن بحاجة اليوم إلى نصوص تشريعية لضبط العلاقات بين مختلف الفاعلين في مجال القضاء، نصوص لا تخترق من قبل جيوب المقاومة، وتشريعات تفعل السواسية وتلين عن التشدد وتدفع الجميع إلى الإيمان بسيادة القانون، وبأثر شيوع العدالة على الوطن والمواطن. ياسين قُطيب