سفر في مسار صاحب «القمر الأحمر» الذي أبصر العالم عبر النغم من منا لم تشنف أسماعه رائعة "القمر الأحمر" أو"راحلة" أو "قصة الأشواق" و"ميعاد" وغيرها من القطع الرومانسية التي ميزت حقبة عاشتها الأغنية المغربية خلال سنوات ازدهارها، نهاية الستينات وبداية السبعينات. لكن قلة من تعرف أن تلك الروائع التي وصلت إلينا عبر أصوات ندية مثل الراحل محمد الحياني، وعبد الهادي بلخياط، كان وراءها ملحن فذ سبق عصره، وشكل علامة فارقة في تاريخ الأغنية المغربية العصرية هو الملحن عبد السلام عامر. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" معكم جوانب من سيرة هذا الفنان الذي حلت ذكرى رحيله أخيرا. إعداد: عزيز المجدوب نادرا ما نلقي بالا لمؤلف أو ملحن أغنية مهما بلغت من الشهرة إذ المجد يجنيه عادة المطرب وحده، وقلما سمعنا أن كاتب كلمات أو ملحنا حاصره المعجبون، أو استقبل استقبال النجوم. وعندما نقول إن عبد السلام عامر كان موهبة فذة وسابقا لعصره، فالأمر لا يعتبر كلاما مبالغا فيه، أو من باب ما درجنا عليه من إطلاق الألقاب هكذا بشكل مجاني، فالرجل جسد بحق صور الإصرار والتحدي وتخطي الصعاب وإثبات الذات في أجلى معانيها. فصاحب "القمر الأحمر" كان شخصا ضريرا، قهر الظلام وملأ الدنيا نغما، شأنه في ذلك شأن العديد من مشاهير العالم المكفوفين، مثل أبي العلاء المعري، وطه حسين، وسيد مكاوي والشيخ إمام وغيرهم، ولم يحل حرمان عامر من حاسة البصر من تلقي تعليمه، وتفجير مواهبه الغنائية والموسيقية. لكن خاصية أخرى تكشف أن عبد السلام عامر، كان فعلا رمزا للتحدي والإصرار، هو أن تلك الروائع التي أبدعها على امتداد مسيرته الفنية القصيرة، كانت إنتاجا فطريا خالصا، إذ لم يتلق عامر تكوينا موسيقيا كافيا يؤهله لأن يصبح "موسيقارا" كما لازمه هذا اللقب الذي أطلقه عليه البعض من فرط إعجابهم بألحانه، كما أن عبد السلام لم يكن يجيد العزف على أي آلة موسيقية، ومع ذلك فقد أبدع تلك الألحان الرائعة باعتماد أسلوب "الدندنة" ولتلك حكاية أخرى. كفيفا أطل فقد عبد السلام عامر بصره في سن مبكرة، سنوات قليلة بعد ميلاده سنة 1939بمدينة القصر الكبير، وسجل بالتالي على نفسه أولى علامات الحرمان، لكن هذا العامل لم يكن محبطا بالنسبة إلى فتى طموح مثل عامر، الذي استطاع، مع ذلك، أن يحصل على شهادة استكمال الدروس الثانوية (البروفي) مترشحا حرا وكان الوحيد الذي تمكن من الحصول عليها ضمن دفعته. وعرف عن عامر، خلال هذه المرحلة، ولعه الشديد بالأدب والموسيقى التي ارتبط بها عن طريق المذياع الذي كان مصدرا أساسيا له لتحقيق إشباعه المعرفي والفني، وكانت ذاكرة عامر تختزن العديد من الأشعار والأغاني التي كان يحفظها بشكل مذهل، ما جعل دواخله تغلي بالأنغام تشهد على ذلك الحركة الدائمة لأنامله التي كانت توقع على ركبتيه ألحانا يجيش بها صدره. ركب عبد السلام التحدي مرة أخرى واتخذ من "الدندنة" أسلوبا في التلحين، متجاوزا القواعد المتعارف عليها في هذه العملية، وبدت مواهبه في هذا المجال تظهر منذ فترة المراهقة، حين كان يلحن الأناشيد التي يؤديها رفقة زملاء الدراسة. وسرعان ما أخذت هذه الموهبة مسلكا جادا، بعد أن اقتنع بقدرته على التلحين، فظهر أول ألحانه نهاية الخمسينات ولم يتجاوز بالكاد سنه العشرين من خلال أغنية "ما بان خيال حبيبي" التي سجلها أولا لإذاعة طنجة بصوته الذي كان رخيما وصالحا للغناء بشهادة الكثيرين. كانت لعبد السلام عامر مواهب متعددة إلى جانب التلحين، منها نظم الشعر وكذا مساهمته في بعض الأعمال المسرحية والملتقيات الأدبية، وكان يصادق الأدباء خاصة الذين يتحدرون من القصر الكبير، منهم على وجه الخصوص محمد الخمار الكنوني وحسن الطريبق، الأول لحن عامر قصيدتين من نظمه، هما "آخر آه" و"حبيبتي"، أما الثاني فلحن من كلماته قصيدة "حب". «أول آه» حينما انتقل عبد السلام عامر إلى الرباط، حاول البحث عن موطئ قدم في عالم الفن والغناء، وأخذ معه الألحان المذكورة إلى الإذاعة، وهناك لم تكن الطريق إلى الإذاعة معبدة ولا مفروشة بالورود، إذ لم يتمكن من ولوجها لأول وهلة، خاصة أنه مازال فتيا ورصيده من الألحان لا يتجاوز لحنين فضلا عن أن معرفته الأكاديمية بالموسيقى كانت يسيرة جدا، وأسلوبه في التلحين كان جديدا، الشيء الذي جعل من الصعب على مسؤولي الإذاعة، وتحديدا الموسيقار أحمد البيضاوي الذي كان مكلفا بذلك، تقبل فكرة السماح له بالتعامل مع الجوق الوطني للإذاعة، فاضطر عامر إلى التوجه صوب إذاعة فاس، حيث سجل ألحانه الأولى رفقة جوقها الجهوي، وهناك تعرف على الفنان عبد الوهاب الدكالي، الذي كان هو الآخر في بداياته الفنية، فأدى من ألحان عبد السلام عامر قصيدتي "آخر آه" و"حبيبتي" ولقيت القطعتان نجاحا منقطع النظير. وعاد عامر من فاس وهو يحمل بين يديه، مفتاح المرور إلى الجوق الوطني للإذاعة، عندها اقتنع البيضاوي بأنه أمام موهبة غنائية فريدة، الأمر الذي سيتكرس مع توالي الألحان التي ستجود بها قريحة عبد السلام، سيما بعد تعرفه على الشاعر عبد الرفيع الجواهري، فجاء ميلاد رائعة "القمر الأحمر" التي شكلت "فتحا" في مسار الأغنية المغربية، ورسخت أقدام عامر في مجال التلحين، وفتحت الباب أمامه للتعامل مع العديد من الأصوات المتألقة مثل عبد الهادي بلخياط، وعبد الحي الصقلي وبهيجة إدريس وسعاد محمد، وإسماعيل أحمد، وفي ما بعد محمد الحياني، وغيرهم. القمر الأحمر... الإعجاز اللحني وفي هذا السياق يقول الفنان والناقد عبد الله رمضون في تحليله لرائعة "القمر الأحمر" إنها "عمل متميز بأسلوبه الموسيقي المغربي الجديد على مستوى التعبير والتوزيع الموسيقي وتوظيف الآلات الموسيقية العربية والغربية والمؤثرات الصوتية الطبيعية والاصطناعية البسيطة لمحاكاة الطبيعة ودمجها بإلقاء الصوت البشري(الشاعر عبد الرفيع جواهري والممثلة المقتدرة أمينة رشيد)، فطبع روح الإبداع في هذه الرائعة الخالدة دون أن يشعر المستمع إليها بالملل، ولا أفقدها الزمن جودتها ومكانتها إلى اليوم". وأضاف رمضون "لقد استطاع الراحل عبد السلام عامر بفضل موهبته الفطرية وقدراته التعبيرية الكبيرة، ورؤيته الفنية الخاصة أن يجدد الأسلوب الموسيقي للقصيدة الغنائية المغربية، ورغم حرمانه من نعمة البصر جعلنا عامر نرى الصور الشعرية للطبيعة المغربية من خلال جمله الموسيقية المعبرة انطلاقا من المقدمة الموسيقية ومرافقتها للنص الغنائي، ومع نهاية المقدمة يبدأ المطرب عبد الهادي بلخياط بهدوء في أداء حر لمطلع القصيدة بصوته الشجي "خجولا أطل وراء الجبال.. وجفن الدجى حوله يسهر"، ويصل في البيت الثاني إلى طبقات أعلى لإظهار قدراته الصوتية ولإبراز عظمة نهر أبي رقراق "ورقراق ذاك العظيم"ثم ينتقل إلى الغناء الموزون في صدر البيت الثاني من القصيدة "على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر". ويتابع المتحدث نفسه "وهكذا حلق بنا على طول القصيدة بين السفوح والجبال والأنهار والمراعي والروابي والمروج، وجعلنا نستمتع بضياء القمر الأحمر الذي أزاح عنا ظلام الدجى، موظفا بذلك مهاراته في صياغة الجمل الموسيقية والانتقالات النغمية وحسن توظيف الآلات الموسيقية والتوزيع الموسيقي الذي جمع بين العزف الأوركسترالي واللحن الميلودي والتقاسيم على الآلات الوترية (العود والقانون والناي والكمان) وإدخال بعض الآلات الغربية الإيقاعية والهوائية". ويتوقف صاحب كتاب "آلة العود بالمغرب" عند أسلوب عامر في التلحين فيقول "لا يعزف على أي آلة موسيقية، ولا يمتلك تكوينا موسيقيا أكاديميا، بل يعتمد في تلحينه على أسلوب الدندنة فقط، ويرفض سيطرة الآلة الموسيقية عليه إيمانا منه أن العازف يعطي ألحانا في مستوى كفاءته في العزف، ولذلك تغلب عليه التقنية والبراعة في خلق الجمل الموسيقية أكثر من اللحن الذي يصدر من وجدان الملحن غير العازف، بعد انفعاله مع كلمات القصيدة أو الأغنية، فينساب صافيا رقراقا، ويصب في كل قلب تهتز معه أحاسيسه وتستيقظ مشاعره الكامنة. وكان يعتمد في تدوينها على أساتذة المعاهد الموسيقية، أو يقوم شخصيا بتلقينها للعازفين، كما كان يعتمد في عزفها على العازف البارع على آلة العود الراحل عمر الطنطاوي". الهجرة إلى مصر لكن بالموازاة مع النجاحات التي حققها عبد السلام عامر تعرض للعديد من المواقف التي جعلته يشعر بأن مقامه في المغرب صار عائقا أمامه لتفجير مواهبه، فجاءت فرصة الذهاب إلى مصر، في رحلة برية جمعته بكل من بلخياط وعبد الحي الصقلي وعبد الرحيم أمين، وعلى أرض الكنانة تأتى له اللقاء مع فطاحلة الغناء العربي أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيد مكاوي وغيرهم، واستفاد من تلك الزيارة، التي كانت بين 65 و67، على كافة الأصعدة فأضاف إلى رصيده الفني الشيء الكثير. العودة إلى المغرب عاد عامر إلى المغرب إثر اندلاع حرب 67، واستقر هذه المرة بحي سباتة بالدار البيضاء، وكان ينتقل في كثير من الأحيان إلى الإذاعة المركزية بالرباط لتسجيل ألحانه العاطفية والوطنية، وشاءت الصدف أن يكون عبد السلام حاضرا يوم انقلاب الصخيرات، صيف 71، بالإذاعة فأرغمه الانقلابيون على تلاوة بيان الانقلاب، بعد أن حفظوه إياه، وكانوا قبل ذلك قد حاولوا مع عبد الحليم حافظ، الذي كان لحظتها هناك، واستطاع الأخير إقناعهم بإعفائه من هذه المهمة. لكن بعد احتواء الوضع، ساءت علاقة عبد السلام عامر مع "المسؤولين"، ولم يشفع له أنه تلا البيان تحت التهديد بالقتل، وتعرض لمضايقات كثيرة بسبب هذا الموقف، كما تم تهميشه بشكل جعله يعيش سنوات ما بعد الانقلاب ظروفا اجتماعية ونفسية صعبة، إلى أن توفي يوم 13 ماي 1979 ولم يتجاوز سنه الأربعين، واضعا بذلك نقطة النهاية في مسار فني قصير لمبدع بصم الأغنية المغربية بنغمة رومانسية كانت مفتقدة.