قوى كبرى تستخدمها لشرعنة العمليات العسكرية وتسويقها للرأي العام أصبحت الشعوب تسمع صوتها، ولم تعد القضايا الدبلوماسية حكرا على دوائر ضيقة ونخبوية. في الواقع، لقد أصبح الرأي العام وكسبه وعدم معارضته، رهانا وطنيا ودوليا على السواء. صحيح أنه يشكل منذ زمن طويل عنصرا هاما في القرار الدولي، لكن العولمة وتطور وسائل الاتصال، زادت أهميته. لقد ظهر ذلك بشدة في ثورتي تونس ومصر. لكن لهذه الميدالية وجهها الآخر: إنه الصعود الموازي لعمليات التضليل الإعلامي. اليوم، تستعر معركة الرأي العام، والمثقفون والخبراء هم الفاعلون فيها (يوضحون أو يوجهون). وهم في الوقت نفسه الرهان (لهم قيمة، ثمن)، لذلك قد يحلو لهم طلب مكافآت رمزية أو مادية لقاء وصولهم إلى الجمهور. اعتبارا من تلك اللحظة، لا يعود هدفهم هو إعلام هذا الجمهور، بل بالعكس، التأثير عليه لصالح بعض الداعمين أو الرعاة (سبونسور). إنها خيانة جديدة وجوهرية يقوم بها المثقفون، إذ يتحول الوصول إلى الرأي العام بالنسبة إليهم إلى وسيلة لتسويق أنفسهم. إنهم يستخدمون الجمهور، ولا يضعون أنفسهم في خدمته. تلاعب وتعاطف هذا هو ظاهر الميدالية، ظاهر الصعود القوي للأخلاق في العلاقات الدولية. فهو قد يخفي، في ظروف معينة، أهدافا أقل نبلا ويسمح باستخدام وسائل لا أخلاقية. استخدام الحجج الأخلاقية، حيلة لامتلاك القوة لا غير، ليس بالأمر الجديد. لم تعد أية حكومة تبرر سياستها بالمصلحة الوطنية وحدها، فهناك "أسباب مشروعة" تنتجها الدولة على الدوام من أجل إعطاء كل قرار متعلق بسياستها الخارجية، شكلا مقبولا. بدءا من التدخل الأمريكي في كوبا لمساعدة الشعب على التحرر من نير الاستعمار، وصولا إلى حرب العراق 2003 لمساعدة شعب آخر على التخلص من دكتاتورية مقيتة، تطول لائحة "الأسباب المشروعة"، ولن يجري إقفالها قريبا. لا شك أنه، كما في كل عملية تلاعب، هناك أساس من الحقيقة يسمح بكسب الرأي العام. لا يمكن خلق تعاطف مع قضية إذا لم يكن لها أساس. المشكلة تكمن في الدوافع الحقيقية لأولئك الذين يروجون لهذه القضية أو تلك بين الجمهور. أراد الكوبيون حقا التخلص من الوصاية الاستعمارية الإسبانية، وقمع نظام صدام حسین شعبه فعلا على نحو لا يمكن السكوت عنه. لكن مصالح بعض القوى هي التي دفعتها إلى التدخل. لقد استخدمت الأخلاق من أجل شرعنة العمليات العسكرية، ولم تكن هي الدافع الحقيقي وراءها. لم تجر عمليات التدخل تلك إذن من أجل مصلحة الشعوب المعنية، وإن "بيعت" للرأي العام تحت هذا العنوان. معايير مزدوجة أيضا، كثيرا ما تستدعى الأخلاق وفق مواصفات متغيرة جدا. فمصطلح "دكتاتور"، مثلا، لا يتم إطلاقه تبعا لوحشية حاكم أو لشدة القمع الذي يمارسه هذا المستبد. إطلاق هذا الوصف عليه أو عدم إطلاقه، مسألة يحددها قربه أو بعده الإستراتيجي عن القوة التي تقف في وجهه. إذا أكدت بأنك منخرط في التحالف الكبير ضد الإرهاب، يمكنك أن تقمع شعوبك دون مشكلة كبيرة. هذا ما فعله بن علي ومبارك طوال عقود، بلا عقاب. أثناء الحرب الباردة، وباسم الديمقراطية ومحاربة الشيوعية، دعم الغربيون بينوشي وموبوتو، بل دعموا نظام "الأبارتايد" لبعض الوقت. هذا الموقف تلخصه على أفضل نحو عبارة الرئيس تيودور روزفلت بشأن سوموزا، ديكتاتور نيكاراغوا: "إنه ابن عاهرة، لكنه ابن عاهرة تتبع لنا". على أرض الأخلاق، توجد على الدوام مشكلة المعايير المزدوجة، مشكلة التطبيق الانتقائي للمبدأ العالمي، ومشكلة قبولنا لأمور في حالات معينة، وعدم قبولنا لها في حالات أخرى. أفضل جواب على هذا التناقض هو تقديم الموقف باللون الأبيض، وذكر الوقائع دون تسمية أبطالها ولا طلب الحكم على هذه النقطة. إذا حصلت على أجوبة متباينة تبعا للأشخاص الفاعلين فيها، انطلاقا من وقائع متماثلة، يمكنك عندئذ الشك بصدق الدوافع الأخلاقية التي تم التذرع بها. الخير والشر لماذا تكون هذه الدكتاتورية بغيضة وليس تلك؟ لماذا يعتبر القمع العسكري أو القصف الجوي للمدنيين مقبولا أحيانا، وغير مقبول أحيانا أخرى؟ الفهم الجيد للأحداث قد يشوشه الاستخدام البلاغي للأخلاق. وبهدف شد انتباه الجمهور بشكل أفضل، تقدم خيارات محدودة لمفهومي الخير والشر. يتملق بعض المثقفين تطلعات الجمهور الأخلاقية، عندما يقفون إلى جانب الخير، لكنهم لا يساهمون في تنوير هذا الجمهور عندما يشوهون الوقائع والمواقف. الرؤى المانوية (الثنائية)، هذه الثمار المتنوعة للأخلاق، تأخذ حيزا متناميا. سبق أن قلت عن هذه النزعة بأنها "تشبه تطبيق معايير عالم ديزني على العلاقات الدولية". لا يمكن في الواقع اختزال أي موقف دولي إلى مواجهة بين معسكرين، الخير من جهة، والشر من الأخرى. هل نظن حقا بأننا نستطيع؟ عبد المجيد الإدريسي (كاتب ومدون)