موظفو النيابة العامة ما بين التبعية الإدارية والقضائية

الخروج من حالة التضارب الحاصلة تتطلب تدخلا تشريعيا وتعديل بعض مقتضيات قانون المسطرة الجنائية 2/2
صاحب المسار التشريعي لقانون التنظيم القضائي المستجد جدلا استثنائيا، منذ وضع الصيغة الأولى لمشروع القانون وإلى غاية المصادقة عليه في شكله النهائي بعد قرار المحكمة الدستورية وترتيب الآثار القانونية عليه، كما قدمت بخصوصه مجموعة من الصيغ والمقترحات تعكس توجهات كل المتدخلين المعنيين من داخل بنية العدالة، حيث تجدر الإشارة إلى أن هذه الأخيرة عرفت تحولات على مستوى بنيتها، الشيء الذي انعكس بشكل جلي على تصورات هذه الأطراف بخصوص نص القانون، بيد أن وزارة العدل وباعتبارها صاحبة مشروع القانون، وفي إطار انفتاحها على كل المتدخلين إعمالا للمقاربة التشاركية مبدأ أساسيا في تدبير أوجه الاختلاف، ومن أجل تقريب وجهات النظر لإيجاد صيغة قانونية متوافق بشأنها تؤلف ما بين كل المكونات ضمن نص القانون ( السلطة القضائية / هيأة كتابة الضبط )، من منطلق الخصوصية التي تسم البنية الوظيفية للمحاكم بالنظر لمكوناتها المركبة، سواء من حيث المهام المزاولة والموسومة بالصبغة شبه القضائية في جزء كبير منها، وتلك المتعلقة بالوضعية النظامية للموظفين العاملين بها باعتبارهم خاضعين للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل.
هذا التوجه عكسته بشكل مخالف مقتضيات الباب الثاني من القسم الثالث من قانون التنظيم القضائي المستجد، من خلال الفصول 101 و102 و103 و104 و105 ، والذي اتخذ عنوانا عريضا (الإشراف القضائي للمحاكم ) والذي يفهم منه بما لا يدع مجال لأي تأويل مخالف، أن المهام شبه القضائية المزاولة من قبل موظفي هيأة كتابة الضبط، هي التي تخضع لمراقبة وإشراف المسؤول القضائي فقط.
بالمقابل فمزاولة مهام الإدارة القضائية من قبله لا تمتد إلى تدبير وتسيير الموظفين في شقه الإداري، ذلك أن وضعيتهم النظامية التي تنظمها مقتضيات قانون الوظيفة العمومية والنظام الأساسي لهيأة كتابة الضبط، والتي لا تعطي أي إشارة بشكل صريح أو ضمني إلى خضوع موظفي هيأة كتابة الضبط على مستوى (التعيين أو الإشراف أو التقييم أو الترقية أو التأديب أو التسمية أو النقل ) لسلطة المسؤول القضائي، وفي السياق نفسه فقرار المحكمة الدستورية حينما اعتبر مجال الإدارة القضائية ي جوانب عملها الإدارية والمالية مجالا مشتركا للتعاون بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فهو يقر بشكل جلي أن تنظيم وتسيير وتدبير الموظفين داخل المحاكم من صميم مهام المسؤول الإداري، والتي يندرج فيها ( توزيع الموظفين على الشعب والمكاتب، تحديد مهام الموظف، التقييم، المراقبة، التأطير، التكوين، التنقيط، تدبير الرخص الإدارية، الإحصاء،….)، وهو ما أكدته إحدى حيثيات قرار المحكمة الدستورية (وحيث إن تبعية الإدارة القضائية، في ما تمارسه من اختصاصات إدارية ومالية للوزارة المكلفة بالعدل، هي تبعية مشروطة بضمان استقلال السلطة القضائية الممارسة من قبل قضاة الأحكام وقضاة النيابة، عبر حصر مداها في التدبير والتسيير الإداري والمالي للمحاكم).
وكما يبدو من خلال هذا التبسيط، فإدارة الموظفين على مستوى المصالح التابعة لكتابة الضبط تعد من مهام المسؤول الإداري، كما يعد هذا الأخير هو المخاطب الأول للموظفين داخل فضاء المحاكم، لذا فتقعيد هذا المفهوم على أرض الواقع ينطلق أولا من تجسيد الأدوار الجديدة /القديمة للمسؤول الإداري من خلال حرصه على ممارسة مهامه بشكل واضح وكامل، كما تجدر الإشارة إلى أن مرحلة استقلال السلطة القضائية التي تم تدشينها في إطار مفهوم الدستور الجديد، والذي أعقبته مجموعة من المتغيرات كاستقلال مؤسسة النيابة العامة عن سلطة وزير العدل، بالإضافة إلى إحداث مؤسسات المجلس الأعلى للسلطة القضائية كإطار مؤسساتي مستقل، وإحداث لجنة التنسيق ما بين السلطة الحكومية المكلفة بالعدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، يفهم منه أن المجال المشترك للإدارة القضائية ينسجم ويتماهى من خلال ضمان ممارسة السلطة القضائية لمهامها بكل استقلالية، بالموازاة مع حرص المسؤول الإداري على ممارسة مهامه كاملة ( التدبير والتسيير ) دون تدخل من السلطة القضائية.
المحور الثالث: أهم مداخل التنزيل السليم لمقتضيات قانون التنظيم القضائي
غني عن البيان أن المقتضيات الإجرائية لقانون المسطرة الجنائية لم تتعرض بالمطلق من خلال موادها لأي إجراء قانوني تمارسه هيأة كتابة الضبط، وهو ما ينبغي الوقوف عليه عند استقراء حيثيات قرار المحكمة الدستورية، حيث اعتبر في تعليله خضوع موظفي كتابة النيابة العامة لمراقبة وإشراف وكيل الملك والوكيل العام للملك نظير ما يمارسونه من مهام ذات طبيعة قضائية، غير أن تلك المهام لا تمارس من قبل الموظفين وهو ما أثار كثير التساؤلات عن الأسس التي استند عليها القاضي الدستوري في بناء قناعته، بالرغم من غياب أي مقتضى تشريعي يحدد مهام موظفي النيابة العامة بالمطلق، وفي السياق نفسه فقد عكست مضامين المادة 103 من قانون التنظيم القضائي على هذا المبدأ، بعد إعمال الأثر القانوني للمحكمة الدستورية على النص التشريعي لقانون التنظيم القضائي، الشيء الذي خلق تضاربا ما بين النص والممارسة اليومية، فالتبعية ترتبط بشكل مشروط بممارسة المهام الفعلية المحددة بنص القانون، كما هو الحال بالنسبة إلى ضباط الشرطة القضائية والتي تحدد مهامهم بمقتضى مواد قانون المسطرة الجنائية بشكل مفصل ومضبوط، وعلى المنوال نفسه فالقاضي الدستوري حين اعتبر أن تبعية موظفي كتابة الضبط في الحالة التي يزاولون المهام ذات الصبغة القضائية يخضعون للمسؤول القضائي من ناحية الإشراف والمراقبة، استند على المقتضيات القانونية الإجرائية والموضوعية، التي تحدد طبيعة المهام الممارسة من قبل موظفي كتابة الضبط، سيما تلك المتعلقة بإجراءات التنفيذ و التبليغ أو الجلسة أو القيم …وهو ما ينسجم مع المنطق القانوني.
إن الخروج من حالة التضارب الحاصلة تتطلب تدخلا تشريعيا من خلال تعديل بعض مقتضيات قانون المسطرة الجنائية، وذلك بالتنصيص على المهام التي تطرق إليها قرار المحكمة الدستورية وإلحاقها بموظفي كتابة النيابة العامة عبر نص القانون، حتى يحصل الانسجام والتناغم بين المقتضيات القانونية، وفي المنحى نفسه لابد من تعديل النظام الأساسي لكتابة الضبط بما يتناسب والمتغيرات التي عرفتها بنية هذه الأخيرة بالموازاة مع التعديلات التي عرفها قانون التنظيم القضائي الجديد، من خلال تحديد عناصر الإشراف والتبعية بشكل مفصل ودقيق حتى يحصل التكامل، دون تضمين العبارات المفتوحة على التأويلات، الشيء الذي يخلق حالة من سوء الفهم، بالإضافة إلى توصيف المهام من زاوية الإطار والمهمة بشكل يتماشى والمكانة التي أضحت تحتلها الإدارة القضائية. هذه التدابير لا ينبغي النظر إليها من زوايا ضيقة بقدر ما ينبغي استحضارها في بعدها الشمولي، على اعتبار أن تأهيل الإدارة القضائية وتطوير بنيتها جزء لا يتجزأ عن الإصلاح الشمولي للإدارة، و الذي انخرطت فيه الدولة عبر تعبئة كل مؤسساتها ومواردها، من أجل تطوير الإدارة وجعلها قادرة على استيعاب المتغيرات التي يشهدها العالم.
*منتدب قضائي بمحكمة الاستئناف بطنجة