الدعوى العمومية بين الاستماع وعدم الاستماع

لا وجود لمكنة قانونية متاحة للمحكمة للتحقق من هوية المتهم الغائب (2/2) بقلم: أشرف منصور جدوي* لو تم الاستماع للمشتكى به لتبددت مجموعة من الظلمات الواقعية أو القانونية، ولأمكن للنيابة العامة اتخاذ القرار الصحيح سواء من حيث الواقع أو من حيث القانون، إلا أن طريق النيابة العامة في سبيل ذلك ليس طريقا دوما مفروشا بالورود، بل قد تعتريه بعض المبررات الواقعة أو القانونية، والتي تشكل حقل ألغاما يخطو فيها قاضي النيابة العامة، ووجب عليه تبعا لذلك الحيطة والحذر ومضاعفة الانتباه، لئلا يخطو على لغم قد يعصف به إلى شط المساءلة التأديبية أو الجنائية، مالم يتبين حقيقة الواقع وحقيقة القانون قبل اتخاذه قراره بالمتابعة، إذ الأخيرة أشد من المقرر بالحفظ حيث الأخير قابل للتراجع عنه، بينما الأولى لا يمكن التراجع أو العدول عنها لأنها ملك للمجتمع، وهو ما يدفعنا إلى استنطاق المبررات القانونية، التي من شأنها الحيلولة دون إجراء المتابعة مالم يتم الاستماع إلى المشتكى به أو التقصي والبحث والتحري بشأنه قبل تسطير أو عدم تسطير المتابعة. ثانيا: تسطير المتابعة من غير استماع للمشتكى به. قد تتوصل النيابة العامة بشكاية ما وتعتمد عليها في تسطير المتابعة وتحريك الدعوى العمومية، ولئن ليس هناك نص في قانون المسطرة الجنائية يمنعها ويغل يدها عن ذلك، فهل هناك من نص يستفاد منه عدم إمكانية ذلك أو على الأقل يجعل على عاتق قاضي النيابة العامة واجب التروي والتحري بشأن بعض الأمور والتي قد تشكل حائلا قانونيا يغل يده عن المتابعة مالم يتم معرفتها، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال البحث والتحري، والاستماع إلى المشتكى به. في اعتقادنا أن أهم وأخطر حائل يمكن أن يكون في مواجهة قاضي النيابة العامة الذي سطر أو يريد تسطير متابعة في حق شخص لم يتم الاستماع إليه، هو الحصانات القانونية، كأن يكون هذا المشتكى به من ذوي الامتياز القضائي، أو من ذوي الصفات والذين حدد المشرع اجراءات حصرا، من أجل متابعتهم إذا نسب إليهم فعل يعد جناية أو جنحة، أو كأن يكون هذا الشخص من ذوي الحصانات الدبلوماسية، حيث يمنع بالمرة مساءلته جنائيا. بالرجوع إلى الفصل 229 من مجموعة القانون الجنائي فقد نص على ما يلي: " كل عضو في الهيأة القضائية، أو أحد ضباط الشرطة القضائية، في غير حالات التلبس، يثير متابعة أو يصدر أو يوقع أمرا من أوامر التحقيق أوحكما، أو يعطي بإجراء احتياطي ضد شخص يتمتع بحصانة قضائية، وذلك قبل أن يحصل على رفع تلك الحصانة بالطرق القانونية، يعاقب بالتجريد من الحقوق الوطنية". فالمشرع في هذا الفصل أوجب على ذوي الصفات المخاطبين به وهم القضاة سواء كانوا قضاة للنيابة العامة أو قضاة للتحقيق أو قضاة للحكم أو ضباطا للشرطة القضائية، استكناه صفة الشخص المزمع اتخاذ اجراء قضائي في مواجهته، حيث لوكان من ذوي الامتياز، فإنه يمتنع تحريك المتابعة في مواجهته، وإن أي تحريك لها تقوم معه المسؤولية الجنائية، ولا يقدحن في قولنا هذا أن الأمر يتعلق بجريمة عمدية تستوجب توافر عنصري العلم والإرادة حتى يقوم القصد الجنائي وتقوم معه الجريمة، فالتذرع بعدم العلم بصفة الشخص أي مصدر حصانته لا يعدم – في اعتقادنا – القصد الجنائي، ذلك أنه كان بالإمكان الجاني أن يعلم وذلك بالنظر للسلط القانونية الهائلة المخولة إليه لاستكناه ومعرفة صفة المشتكى به المسطورة في حقه المتابعة. ثالثا: تقييم التوجه القضائي لمحكمة النقض. إن الملاحظ بخصوص القرار عدد 52/1 المؤرخ في 10/1/2018، أن محكمة النقض قررت النقض والإحالة بعلة عدم استنفاد كل وسائل البحث والتحقيق، التي كفلها القانون للوصول إلى هوية المتهم، لكن حيث إنه بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية فإنه حدد حالتين لا ثالث لهما في ما يتعلق بضرورة تأكد المحكمة من هوية المتهم إذا نازع في ذلك، فالمواد من 592 إلى 595، هي المحدد لإجراءات التحقق من الهوية، والحالة الأولى هي أن المنازع في الهوية يصرح أمام المحكمة أنه ليس الشخص المقصود بالاتهام، والحالة الثانية أن الشخص المحكوم بعقوبة ينازع في ذلك نافيا أن يكون هو الشخص المحكوم عليه، وفي هاتين الحالتين أعطيت للمحكمة صلاحية التحقق من الهوية، فضلا عن أن هاتين الحالتين تستدعيان أن يكون المتهم أو المحكوم عليه حاضرا، إذ يستشف من خلال تلك المقتضيات أنهما تبقيان حكرا على المتهم أو المحكوم عليه الحاضر. وبالتالي فلا وجود لمكنة قانونية متاحة للمحكمة للتحقق من هوية المتهم الغائب، فضلا عن تعذر ذلك من الناحية الواقعية زيادة على أن أي تحر من قبل المحكمة تجعلها تخرق مبدأ الحياد، إذ تبت المحكمة في الدعاوى على حالها كما أحالتها النيابة العامة. وإذا كان القرار الأخير نزل في منزلة بين المنزلتين أي ضرورة بت المحكمة طالما تتوافر على الهوية الكاملة للمتهم، الذي ولئن كان لم يتم الاستماع إليه تمهيديا، إلا أنه أعتقد أن التثبت والتحقق من تلك الهوية بشكل يقيني رهين بحضور المتهم أمام المحكمة، فقد يرد خطأ في الهوية في صك المتابعة نتيجة لتدليس من المشتكي أو ما شاكل ذلك... مما يتعين معه في اعتقادي تبني التوجه المتخذ في القرار الأول، من قبل محكمة النقض، والذي مؤداه بطلان المتابعة لعلة عدم الاستماع إلى المشتكى به تمهيديا، فهذا التوجه هو أحق بالاهتداء أولى بالاقتداء. * محام بهيأة البيضاء

الدعوى العمومية بين الاستماع وعدم الاستماع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الودغيري: حلمي تجذير حضور التراث

امتحانات الكفاءة المهنية بـ"دار البريهي"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات